يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عُمَر بن يونس ، عن عِكْرِمة ، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين{[6119]} أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين . وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري ، فخرج أولئك النَّفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتَوْا{[6120]} غارا مُشْرِفا على الماء فقعدوا{[6121]} فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ هذا الماء ؟ فقال - أرَاه ابن ملْحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخَرَج حتى أتى حيا{[6122]} [ منهم ] {[6123]} فاختبأ أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر مَعُونة ، إني رسولُ رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رَجُل من كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر . فقال : الله أكبر ، فُزْتُ ورب الكعبة . فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن الطفيل . وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : أن الله [ تعالى ]{[6124]} أنزل فيهم قرآنا : بَلِّغُوا عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زَمَنًا{[6125]} وأنزل الله : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }{[6126]} .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمَشُ ، عن عبد الله بن مُرَّةَ ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال : أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : " أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ{[6127]} حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ{[6128]} يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبِّ ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا " {[6129]} . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ " .
انفرد{[6130]} به مسلم من طريق حماد{[6131]} {[6132]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا سفيان ، عَن{[6133]} محمد بن علي بن رَبيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أما عَلِمْتَ{[6134]} أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ : تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ : أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا ، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَقَالَ : إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ " .
انفرد{[6135]} به أحمد من هذا الوجه{[6136]} وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر - وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه - قتل يوم أحد شهيدا . قال البخاري : وقال أبو الوليد ، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال : سمعت جابرا قال : لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني{[6137]} والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَبْكِهِ {[6138]} - أو : مَا تَبْكِيهِ{[6139]} - ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ " . وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر{[6140]} عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتلَ أبي يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي . . . وذكر تمامه بنحوه{[6141]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا أُصِيبَ{[6142]} إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ، وَمَأْكَلِهِمْ ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم{[6143]} قَالُوا : يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا ، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ " فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ . فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها " .
هكذا رواه [ الإمام ]{[6144]} أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن إسماعيل بن عَيَّاش{[6145]} عن محمد بن إسحاق به{[6146]} ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فذكره ، وهذا أثبت{[6147]} . وكذا رواه سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان{[6148]} عن إسماعيل{[6149]} بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6150]} .
وكذا قال قتادة ، والربيع ، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن سليمان{[6151]} أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " يا جابر ، مَا لِي أراك مُهْتَما ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي وترك{[6152]} دَينا وعيالا . قال : فقال : " ألا أُخْبِرُكَ ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا - قال علي : الكفَاح : المواجهة - فَقَالَ : سَلْني أعْطكَ . قَالَ : أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ . قَالَ : أيْ رَبِّ : فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي . فَأَنزلَ اللهُ [ عَزَّ وجَلَّ ]{[6153]} { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } الآية{[6154]} .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري ، عن أبيه ، عن جابر ، به نحوه . وكذا رواه البيهقي في " دلائل النبوة " من طريق علي بن المديني ، به{[6155]} .
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري ، وهو عيسى بن عبد الرحمن ، إن شاء الله ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[6156]} قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر : " يَا جَابِرُ ، ألا أُبَشِّرُكَ ؟ قال : بلى . بشّرك الله بالخير . قال{[6157]} شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ : تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه . قَالَ : يَا رَبِّ ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ . أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ{[6158]} مَعَ نَبِيَّكَ ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى . قَالَ : إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [ لا ]{[6159]} يَرْجعُ " {[6160]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا " .
تفرد{[6161]} به أحمد ، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعَبَدة{[6162]} عن محمد بن إسحاق ، به . وهو إسناد جيد{[6163]} .
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح{[6164]} أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ؛ فإن الإمام أحمد ، رحمه الله ، رواه عن [ الإمام ]{[6165]} محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق{[6166]} في شَجِر الجَنَّةِ ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ " {[6167]} .
قوله : " يعلق " {[6168]} أي : يأكل{[6169]} .
وفي هذا الحديث : " إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ " .
وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب{[6170]} بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا{[6171]} على الإيمان .
{ وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
يعني تعالى ذكره { وَلا تَحْسَبنّ } : ولا تظننّ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلا تَحْسَبنّ } : ولا تظننّ .
وقوله : { الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني : الذين قُتِلوا بأُحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمواتا } يقول : ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا ، لا يحسون شيئا ، ولا يلتذّون ، ولا يتنعمون ، فإنهم أحياء عندي ، متنعمون في رزقي ، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي ، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ ، جَعَلَ اللّهُ أرْوَاحَهُمْ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أنْهارَ الجَنّةِ ، وَتأكُلُ مِنِ ثِمَارِها ، وَتأْوِي إلى قَنادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلّ العَرْشِ¹ فَلَمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمأْكَلِهِمْ وَحُسْنِ مَقِيِلهِمْ ، قالوا : يا لَيْتَ إخْوَانَنا يَعْلَمونَ ما صَنَعَ اللّهُ بِنا ! لِئَلاّ يَزْهَدُوا فِي الجِهادِ وَلا يَنْكَلوا عَنِ الحَرْبِ ، فَقالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ : أنا أُبَلّغُهمْ عَنْكمْ » فأنزل الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الاَيات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق بن الأجدع ، قال : سألنا عبد الله بن مسعود ، عن هذه الاَيات : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الاَية ، قال : أما إنا قد سألنا عنها ، فقيل لنا : «إنّه لما أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بأُحُدٍ ، جَعَلَ الله أرْوَاحَهُمْ في أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنْهارَ الجَنّةِ وَتأْكُلُ مِنْ ثمارِهَا وتأوي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ في ظِلّ العَرْشِ ، فيطّلع الله إليهم اطّلاعَةً ، فيقول : يا عبادي ما تَشْتَهُونَ فَأَزِيُدكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الجَنّةَ ، نَأْكُلُ منها حيث شِئْنَا ثلاث مرات ثم يَطّلِعُ فَيَقُولُ : يا عِبَادي ما تَشْتَهُونَ فأزيدكم ؟ فيقولون : رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الجَنّةَ ، نَأْكُلُ منها حَيْثُ شِئْنا ، إلا أنا نَخْتَارُ أن تَرُدّ أرْوَاحَنا في أجْسَادِنا ، ثم تَرُدّنا إلى الدّنْيا ، فنُقَاتل فيك حتى نُقْتَلَ فيك مرّة أخْرَى » .
حدثنا الحسن بن يحيى العبدي ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله ، عن هذه الاَية ، ثم ذكر نحوه ، وزاد فيه : «أنّي قَدْ قَضَيْتُ أنْ لا تُرْجَعُوا » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحد قال : أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر ، في قناديل تحت العرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم ترجع إلى قناديلها ، فيطلع إليها ربها ، فيقول : ماذا تريدون ؟ فيقولون : نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحرث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الشّهَداءُ على باِرقٍ : نَهْرٍ بِبابِ الجَنّةِ في قُبّةٍ خَضْرَاءَ » وقال عبدة : «فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ، يخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ مِنَ الجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا » .
حدثنا أبو كريب ، وأنبأنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الحرث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : «في قُبّةٍ خَضْرَاء » وقال : «يَخْرُجُ عَلَيهِم فِيها » .
حدثنا ابن وكيع ، وأنبأنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الحرث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني الحرث بن الفضيل الأنصاريّ عن محمود بن لبيد الأنصاريّ ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الشّهَداءُ على بارِقٍ نَهْرٍ بِبابِ الجَنّةِ في قُبّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُج عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الجَنّةِ بُكْرَةً وَعشِيّا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أيضا ، يعني : إسماعيل بن عياش ، عن ابن إسحاق ، عن الحرث بن الفضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : وحدثني بعض أصحابي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُبَشّرُكَ يا جابِرُ ؟ » قال : قلت : بلى يا رسول الله ! قال : «إنّ أباكَ حَيْثُ أُصيب بأُحُدٍ أحيْاهُ اللّهُ ، ثُمّ قالَ لَهُ : ما تُحِبّ يا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو أنْ أفْعَلَ بِكَ ؟ قالَ : يا رَبّ أُحِبّ أنْ تَرُدّني إلى الدّنْيا فَأُقاتِلَ فِيكَ فأُقْتَلُ مَرّةً أُخْرَى » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قُتِلوا يوم أُحد ! فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُونَ } . كنا نحدّث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم السدرة .
حُدثت عن عمار ، وأنبأنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه ، إلا أنه قال : تعارف في طير خضر وبيض وزاد فيه أيضا : وذكر لنا عن بعضهم في قوله : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ } قال : هم قتلى بدر وأُحد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال : قالوا : يا ربّ ! ألا رسول لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم ، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الاَية : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الاَيتين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الاَيات : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون } قال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، قال : فاطّلع إليهم ربك أطلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : ربنا ألسنا نسرح في الجنة في أيها شئنا ثم اطّلع عليهم الثالثة ، فقال : هل تستهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : تعيد أرواحنا في أجسادنا ، فنقاتل في سبيلك مرّة أخرى ! فسكت عنهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله : أنهم قالوا في الثالثة حين قال لهم : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : تقرىء نبينا عنا السلام ، وتخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يرغّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهوّن عليهم القتل : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُون } : أي قد أحييتهم ، فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها ، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، قال : كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر ، يبلون فيه خيرا ، ويرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون فيه الجنة ، والحياة في الرزق . فلقوا المشركين يوم أُحد ، فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله فقال : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا } . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر الشهداء ، فقال : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ } إلى قوله : { ولا هُمْ يْحزنُون } . زعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة ، تبيت في القناديل ، فإذا سرحن نادى مناد : ماذا تريدون ؟ ماذا تشتهون ؟ فيقولون : ربنا نحن فيما اشتهت أنفسنا ! فيسألهم ربهم أيضا : ماذا تشتهون ؟ وماذا تريدون ؟ فيقولون : نحن فيما اشتهت أنفسنا ! فيسألون الثالثة فيقولون ما قالوا : ولكنا نحبّ أن تردّ أرواحنا في أجسادنا ! لما يرون من فضل الثواب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عباد ، قال : حدثنا إبراهيم بن معمر ، عن الحسن ، قال : ما زال ابن آدم يتحمّد حتى صار حيّا ما يموت ثم تلا هذه الاَية : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون } .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا عمر بن يونس ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ، قال : ثني أنس بن مالك في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة ، قال : لا أدري أربعين ، أو سبعين ، قال : وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال أراه أبو ملحان الأنصاري : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فخرج حتى أتى حيا منهم ، فاحتبى أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله ! فخرج إليه رجل من كِسْر البيت برمح ، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشقّ الاَخر ، فقال : الله أكبر ، فزت وربّ الكعبة ! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه ، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل . قال : قال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا ، وأنزل الله : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون } .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : لما أصيب الذين أصيبوا يوم أُحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لقوا ربهم ، فأكرمهم ، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب ، قالوا : يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ! فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم . فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون } إلى قوله : { ولا هُمْ يحْزنُون } ، فهذا النبأ الذي بلغ الله ورسوله والمؤمنين ما قال الشهداء .
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد . وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا . والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة . وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين . { بل أحياء } أي بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه . { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء .
وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن » بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن » بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا » ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا » بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : { بل أحياء } مقدمة قوله : { يرزقون } إذ لا يرزق إلا الحي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياءٌ » بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياءً » بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة .
قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله { عند ربهم } فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن { عند } تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً{[3704]} ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ) {[3705]} .
قال القاضي رحمه الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه السلام : ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضاً فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه الفراء في إصابة العلقة ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون »{[3707]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : «ألا أبشرك يا جابر ؟ » قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : «إن أباك حيث أصيب - بأحد - أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى »{[3708]} ، وقال قتادة رحمه الله : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا -بأحد- فنزلت هذه الآية{[3709]} وقال محمد بن قيس بن مخرمة{[3710]} في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تعالى : أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآيات ){[3711]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني{[3712]} وقوله تعالى : { فرحين } نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل » في هذه الآية : التنعيم المذكور .
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن .
والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قُتِلوا بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً .
وقوله : { بل أحياء } للإضراب عن قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة بالرفع ، وقرىء بالنصب على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله : { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق .