تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي : من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .

ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع{[16004]} عليه شيء أراده ، ولا يغالب ، وذو انتقام ممن{[16005]} كفر به وجحده { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ الطور : 11 ] ؛ ولهذا قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } أي : وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في الصحيحين ، من حديث أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس فيها معلم لأحد " {[16006]} .


[16004]:- في ت : "تمتنع".
[16005]:- في ت : "بمن".
[16006]:- صحيح البخاري برقم (6521) وصحيح مسلم برقم (2790).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَلا تَحْسَبنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي وعدهم من كذّبهم ، وجحد ما أتَوْهم به من عنده . وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته ، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته ، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله ، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم .

وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعني بقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ : لا يمانع منه شيء أراد عقوبته ، قادر على كل من طلبه ، لا يفوتُه بالهَرَب منه . ذُو انْتِقامٍ ممن كفر برسله وكذّبهم ، وجحد نبوتهم ، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره . وأضيف قوله : مُخْلِفَ إلى الوعد ، وهو مصدر لأنه وقع موقع الاسم ، ونصب قوله : رُسُلَهُ بالمعنى وذلك أن المعنى : فلا تحسبنّ الله مخلف رسله وعده . فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة «مخلف » إليه ، ففي معنى النصب ، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين ، كقول القائل : كسوت عبدَ الله ثوبا ، وأدخلته دارا . وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين ، جاز تقديم أيّهما قْدّم ، وخفصُ ما وَلِيَ الفعل الذي هو في صورة الأسماء ونصب الثاني ، فيقال : أنا مدخلُ عبدِ الله الدار ، وأنا مدخلُ الدّارِ عبدَ الله ، إن قدّمت الداء إلى المُدْخل وأخرت عبدَ الله خفضت الدار ، إذ أضيف مُدْخل إليها ، ونُصِب عبد الله وإن قُدّم عبدُ الله إليه ، وأخّرت الدار ، خفض عبد الله بإضافة مُدْخلٍ إليه ، ونصب الدار وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن الفعل أعني مدخل يعمل في كلّ واحد منهما نصبا نحو عمله في الاَخر ومنه قول الشاعر :

تَرَى الثّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظّلّ رأسَهُ *** وسائرُهُ بادٍ إلى الشّمْسِ أجْمَعُ

أضاف مُدْخل إلى الظلّ ، ونصب الرأس وإنما معنى الكلام : مدخل رأسَه الظلّ . ومنه قول الاَخر :

فَرِشْني بِخَيْرٍ لا أكُونَ وَمِدْحَتِي *** كناحِتِ يَوْمٍ صَخْرَةً بعَسِيلِ

والعسيل : الريشة جُمع بها الطيب ، وإنما معنى الكلام : كناحِتِ صخرةٍ يوما بعسيل ، وكذلك قول الاَخر :

رُبّ ابْنِ عَمَ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ *** طَبّاخِ ساعاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ

وإنما معنى الكلام : طباخ زادِ الكَسل ساعاتِ الكَرَى .

فأما من قرأ ذلك : فَلا تَحْسَبنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسلهُ فقد بيّنا وجه بُعْدِه من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام ، عند قوله : وكَذَلِكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شركاؤهم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

{ فلا تحسبن الله مُخلفَ وعدِه رُسلَه } مثل قوله : { إنا لننصر رسلنا } { كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي } وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله . { إن الله عزيز } غالب لا يماكر قادر لا يدافع . { ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (47)

وقوله : { فلا تحسبن الله } الآية ، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته ، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا ، ولكن خرجت العبارة هكذا ، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته .

وقرأ جمهور الناس «مخلف وعده » بالإضافة ، «رسلَه » بالنصب ، وإضافة «مخلف » إلى الوعد ، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز ، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل ، وهذا نحو قول الشاعر : [ الطويل ]

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه . . . وسائره باد إلى الشمس أجمع{[7104]}

وكقولك : هذا معطي درهم زيداً . وقرأت فرقة : «مخلف وعدَه رسلِه » بنصب الوعد وخفض الرسل ، على الإضافة ، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها ، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهي كقول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]

فزججتها بمزجّة . . . زج القلوص أبي مزادة

وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر :

لله در اليوم من لامها{[7105]} . . . وقال آخر : [ الوافر ]

كما خط الكتاب بكفِّ يوماً . . . يهوديٍّ يقارب أو يزيل{[7106]}

والمعنى : لا تحسب يا محمد - أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم - أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله ، وإظهارهم ، ومعاقبة من كفر بهم ، في الدنيا أو في الآخرة ، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء ، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم .


[7104]:استشهد الفراء بهذا البيت في "معاني القرآن"، وكذلك استشهد به الطبري، وأبو حيان في "البحر"، ولم ينسبه أحد منهم، قال الفراء: "فأضاف (مدخل) إلى (الظل)، و كان الوجه أن يضيف (مدخل) إلى الرأس"، و من كلامه هنا : "إذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل: كسوتك الثوب، وأدختلك الدار، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل، فتقول: هو كاسي عبد الله ثوبا، و مدخل الدار زيدا، ومنه قول الشاعر "ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه". . . البيت. و مثله: فرشني بخير لا أكونن و مدحتي كناحت يوم صخرة بعسيل والشاهد أنه أضاف (ناحت) إلى (يوم)، ونصب (صخرة)، ومعنى رشني: انفعني، والعسيل: مكنسة العطار، وهي من شعر يكنس به العطار الطيب، والمراد أنه لا فائدة فيه كمن ينحت الصخرة بهذه المكنسة الناعمة.
[7105]:أصل الكلام: لله در من لامها اليوم، لكن الشاعر فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وهو "اليوم"، وهو كثير في كلام العرب.
[7106]:هو كالشاهد السابق في الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وهو "يوما"، وأصل الكلام: خط الكتاب بكف يهودي يوما.