قال مجاهد في قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ }{[2958]} يقول : كما فعلت فاذكروني .
قال عبد الله بن وهب ، عن هشام بن سعيد ، عن زيد بن أسلم : أن موسى ، عليه السلام ، قال : يا رب ، كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرُني ولا تنساني ، فإذا ذكرتني فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني .
وقال الحسن البصري ، وأبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، إن الله يذكر من ذكره ، ويزيد من شكره ويعذب من كفره .
وقال بعض السلف في قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] قال : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا يُنْسَى ، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عمارة الصيدلاني ، حدثنا مكحول الأزدي قال : قلت لابن عمر : أرأيت قاتل النفس ، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله ، وقد قال الله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ؟ قال : إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته ، حتى يسكت .
وقال الحسن البصري في قوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } قال : اذكروني ، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي .
وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية : برحمتي .
وعن ابن عباس في قوله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }{[2959]} قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
وفي الحديث الصحيح : " يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه " .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك ، في ملإ من الملائكة - أو قال : [ في ]{[2960]} ملأ خير منهم - وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول "
صحيح الإسناد : أخرجه البخاري من حديث قتادة{[2961]} . وعنده قال قتادة : الله أقرب بالرحمة .
وقوله تعالى : { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره ، ووعده على شكره بمزيد الخير ، فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن الفضيل{[2962]} بن فضالة - رجل من قيس - حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره{[2963]} عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه " . وقال روح مرة : " على عبده " {[2964]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
يعني تعالى ذكره بذلك : فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . كما :
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : اذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ قال : اذكروني بطاعتي ، أذكركم بمغفرتي .
وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلاَ تَكْفُرُون إن الله ذاكرُ من ذكره ، وزائدُ من شكره ، ومعذّبُ من كفره .
حدثني موسى قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : اذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ قال : ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله ، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي وَلاَ تَكْفُرُونِ يقول : ولا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم ، ولكن اشكروا لي عليها ، وأزيدكم ، فأتمم نعمتي عليكم ، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي ، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته ، ومن كفرني حرمته وسلبته ما أعطيته . والعرب تقول : نصحت لك وشكرت لك ، ولا تكاد تقول نصحتك ، وربما قالت شكرتك ونصحتك ، من ذلك قول الشاعر :
هُمُ جَمَعُوا بُؤسى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ فَهَلاّ شَكَرْتَ القَوْمَ إنْ لَمْ تُقَاتِلِ
نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبّلُوا رَسُولِي ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وَسَائِلِي
وقد دللنا على أن معنى الشكر : الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة ، وأن معنى الكفر تغطية الشيء ، فيما مضى قبل فأغنى ذلك عن إعادته هَهنا .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ( 152 )
قال سعيد بن جبير : معنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة .
قال القاضي أبو محمد : أي اذكروني عند كل أموركم فيحملكم خوفي على الطاعة فأذكركم حينئذ بالثواب ، وقال الربيع والسدي : المعنى اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه( {[1419]} ) .
وفي الحديث : إن الله تعالى يقول : «ابن آدم اذكرني في الرخاء أذكرك في الشدة »( {[1420]} ) ، وفي حديث آخر : إن الله تعالى يقول : «وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم »( {[1421]} ) وروي أن الكافر إذا ذكر الله ذكره الله باللعنة والخلود في النار ، وكذلك العصاة يأخذون بحظ من هذا المعنى( {[1422]} ) ، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «قل للعاصين لا يذكروني » .
و { اشكروا لي } واشكروني بمعنى واحد ، و { لي } أشهر وأفصح مع الشكر( {[1423]} ) ، ومعناه نعمي وأياديّ ، وكذلك إذا قلت شكرتك فالمعنى شكرت صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر ذكر اليد وذكر مسديها معاً ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، و { تكفرون } أي نعمي وأياديّ( {[1424]} ) ، وانحذفت نون الجماعة للجزم ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياء التي بعدها تخفيفاً لأنها رأس آية ، ولو كان نهياً عن الكفر ضد الإيمان لكان : ولا تكفروا ، بغير النون .