الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ} (152)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

إذا فعلت ذلك بكم؛ {فاذكروني}، يقول: فاذكروني بالطاعة

{أذكركم} بخير.

{واشكروا لي ولا تكفرون}: اشكروا الله عز وجل في هذه النعم لا تكفروا بها لقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم} إلى آخر الآية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{فاذكروني} أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، {أذكركم} برحمتي إياكم ومغفرتي لكم.

وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.

{وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي "وَلاَ تَكْفُرُونِ": ولا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم، فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته، ومن كفرني حرمته وسلبته ما أعطيته.

والعرب تقول: نصحت لك وشكرت لك، ولا تكاد تقول نصحتك، وربما قالت شكرتك ونصحتك... وقد دللنا على أن معنى الشكر: الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة، وأن معنى الكفر تغطية الشيء.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقيل: (فاذكروني) في الرخاء والسعة (أذكركم) في الضيق والشدة، وقيل: (فاذكروني) في الخلوات (أذكركم) في ملأ [من] الناس، وأذكركم في ملأ من الملائكة.

ويحتمل: (واشكروا) أي وجهوا العبادة إلي، ولا تعبدوا غيري، والله أعلم.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{فاذكروني أذكركم} قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى؛ وذكرنا إياه على وجوه. وقد رُوي فيه أقاويل عن السلف، قيل فيه:"اذكروني بطاعتي أذكُرْكُمْ برحمتي"، وقيل فيه: "اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة"، وقيل: "اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب"، وقيل فيه:"اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة". واللفظ محتمل لهذه المعاني، وجميعها مُرادُ الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه.

[و] لما كان المعنى في ذكر الله تعالى طاعته؛ والطاعة تارة بالذكر باللسان؛ وتارة بالعمل بالجوارح؛ وتارة باعتقاد القلب؛ وتارة بالفكر في دلائله وحججه؛ وتارة في عظمته؛ وتارة بدعائه ومسألته، جاز إرادة الجميع بلفظ واحد.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الذكر: حضور المعنى للنفس، فقد يكون بالقلب، وقد يكون بالقول، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس، وفي أكثر الاستعمال يقال: الذكر بعد النسيان، وليس ذلك بموجب إلا أن يكون إلا بعد نسيان، لأن كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الحضور بالبال ذاكر له. وأصله التنبيه على الشيء. فمن ذكر ناسيا، فقد نبهه عليه. وإذا ذكرناه نحن فقد نبهنا عليه... (وإنه لذكر لك) أي شرف لك من النباهة والجلالة. والفرق بين الذكر والخاطر. أن الخاطر: مرور المعنى بالقلب، والذكر قد يكون ثابتا في القلب. وقد يكون بالقول.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنَّ في الخبر؛ من أحب شيئاً أكثر ذكره، فهذا -في الحقيقة- أمرٌ بالمحبة أي أحْبِبْني أحبك؛ {فاذكروني أذكركم} أي أحبوني أحببكم.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

قال ثابت البُناني رحمه الله: إني أعلم متى يذكرني ربي عز وجل، ففزعوا منه وقالوا: كيف تعلم ذلك؟ قال: إذا ذكرته ذكرني. (إحياء علوم الدين 1/ 371).

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرأوا كتابه، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع:

(أحدها): أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة الفادحة في تلك الدلائل.

(وثانيها): أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم.

(وثالثها): أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له،

أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكرا بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} فصار الأمر بقوله: {اذكروني} متضمنا جميع الطاعات...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وأصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم... والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة.

روى ابن ماجه عن عبدالله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل). وخرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه).

والشكر: معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، وقد تقدم. فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات.

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه:

الأول: النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ذكر الله، قيل: الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما لكان الذاكر أفضل منه".

الوجه الثاني: أن الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذكر اشترط فيه الكثرة، فقال: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} [الأحزاب:41]، {والذاكرين الله كثيرا} [الأحزاب:35]، ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال.

الوجه الثالث: أن للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره: وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإن الله تعالى يقول: "أنا جليس من ذكرني "ويقول:"أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني". وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور وما بين المقامين بون بعيد فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب.

واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والحمد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، وغير ذلك.

ولكل ذكر خاصيته وثمرته.

وأما التهليل: فثمرته التوحيد: أعني التوحيد الخاص فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن.

وأما التكبير: فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال.

وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك، فثمرتها ثلاث مقامات: وهي الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة. فإن المحسن محبوب لا محالة.

وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتها التوكل على الله والتفويض إلى الله، والثقة بالله.

وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك، فثمرتها المراقبة.

وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فثمرتها شدة المحبة فيه، والمحافظة على إتباع سنته.

وأما الاستغفار: فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدمة...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالاً بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالاً بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الكلمة من الله تعالى كبيرة جدا كأنه يقول إنني أعاملكم بما تعاملونني به، وهو الرب ونحن العبيد، وهو الغني ونحن الفقراء إليه. أي وهذه أفضل تربية من الله تعالى لعباده: إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل...

ثم بعد أن علمهم ما يحفظ النعم أرشدهم إلى ما يوجب المزيد بمقتضى الجود والكرم فقال: {واشكروا لي}: هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله.

{ولا تكفرون}: لا تكفروا نعمي بإهمالها أو صرفها إلى غير ما وجدت لأجله بحسب الشرع والسنن الإلهية.

وهذا تحذير لهذه الأمة مما وقعت فيه الأمم السالفة إذ كفرت بنعم الله تعالى فحولت الدين عن قطبه الذي عليه وهو الإخلاص وإسلام الوجه لله وحده والعمل الصالح والمصلح للأفراد والاجتماع، وعطلت ما أعطاها الله من مواهب المشاعر والعقل والملك فلم تستعملها فيما خلقت له، وهكذا انحرفوا بكل شيء عن أصله، فسلبهم الله ما كان وهبهم تأديبا لهم ولغيرهم، ثم رحمهم بأن أرسل إليهم خاتم النبيين بهداية عامة تعرفهم وجه تلك العقوبات الإلهية وتحذرهم العود إلى أسبابها، وقد امتثل المسلمون هذا الأوامر زمنا فسعدوا، ثم تركوها بالتدريج فحل بهم ما نرى كما قال: {وإذا تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم: 7) فإذا عادوا عاد الله عليهم بما كان أعطى سلفهم وإلا كانوا من الهالكين...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وذكر الله ليس لفظا باللسان، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثرا ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء..

والشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان. والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس! والعياذ بالله! ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة. وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله، والتميز بالانتساب إليه، والاختصاص بهذا الانتساب.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وشكر العبد لله تعالى، الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدي على حق غيره، وألا يؤذي، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني.. وشكر نعمة الرجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الاقتران... الله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان...