اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ} (152)

اعلم أن الله - تعالى- كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر ، والشكر .

أما الذكر فقد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح .

فذكر اللسان الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتابه .

وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل ، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفية التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم ، والتفكر في أسرار مخلوقاته .

وأما الذكر بالجوارح ، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكراً ، بقوله تعالى : { فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] فقوله : " اذْكُرُوني " يتضمن الطاعات ، ولهذا روي عن سيعد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي{[1931]} فأجمله حتى يدخل الكل فيه .

فصل في ورود الذكر في القرآن

الذكر ورد على ثمانية أوجه :

الأول : بمعنى الطاعة كهذه الآية أي : أطيعوني أغفر لكم .

الثاني : العمل ، قال تعالى : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ }

[ البقرة : 63 ] أي : اعملوا بما فيه .

الثالث : العِظَة ، قال تعالى :

{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] أي العِظَة ، ومثله { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } [ الأنعام : 44 ] أي : ما وعظوا به .

الرابع : الشَّرف قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] ومثله : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } [ المؤمنون : 71 ] أي : بشرفهم ، وقوله : { هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } [ الأنبياء : 24 ] أي : شرف .

الخامس : القرآن قال تعالى : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] أي : القرآن ، ومثله : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] .

السادس : التوراة قال تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ } [ النحل : 43 ] أي : التوراة .

السابع : البيان ، قال تعالى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 63 ] .

الثامن : الصلاة ، قال تعالى : { فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] .

قوله : " أَذْكُرْكُمْ " هذا خطاب لأهل " مكة " والعرب .

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي{[1932]} .

وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء .

بيانه قوله سبحانه وتعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 - 144 ] .

وقيل : اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة .

قال تبارك وتعالى :{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قاله أبو مسلم .

وقيل : اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، وقيل : اذكروني بمَحَامدي أذكركم بهدَايتي .

روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تَعَالَى - يقول : يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي ، وَإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْراً دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعاً ، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعاً دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعاً ، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ ، وإِنْ هَرْوَلْتَ إِلَيَّ سَعَيْتُ إِلَيْكَ ، وإِنْ سَأَلْتَنِي أَعْطَيْتُكَ ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْنِي غَضِبْتُ عَلَيْكَ{[1933]} " .

وقال أبو عثمان النهدي : إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها .

قيل : ومن أين تعلمها ؟ قال : اتقوا الله عز وجل : { فَاذْكُرُونِي أّذْكُرْكُمْ } .

قوله : { وَاشْكُرُواْ لِي } .

تقدم أن " شَكَر " يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح .

وقال بعضهم : إذا قلت : شكرت لزيد ، فمعناه شكرت لزيد صَنِيْعَهُ ، فجعلوه متعدياً لاثنين .

أحدهما : بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : " واشكروا لي ما أنعمت به عليكم " .

وقال ابن عطية : " واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد " .

و " لي " أفصح وأشهر مع الشّكر ، ومعناه : نعمتي وَأَيَادِيَّ ، وكذلك إذا قلت شكرتك ، فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد ، وذكر مُسْدِيها معاً ، فما حذف من ذلك ، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف .

وأصل الشكر في اللغة : الظهور ، فشكر العبد لله - تعالى - ثناؤه عليه بذكر إحسانه ، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له ، إلا أن شكر العبد نُطق باللسان ، وإقْرَار بالقلب بإنعام الرب .

وقوله تعالى : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } نهي ولذلك حذفت منه نون الجماعة ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياء ؛ لأنها رأس آية وإثباتها أحسن في غير القرآن ، أي : لا تكفروا نعمتي ، فالكفر هنا سَتْر النعمة لا التكذيب .


[1931]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/211) عن سعيد بن جبير والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 273) وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[1932]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/273) وعزاه لأبي الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا.
[1933]:- أخرجه البغوي (1/126) وأخرجه بلفظ قريب منه مسلم في الذكر والدعاء 19 وأحمد (2/ 391) وابن حبان (2393، 2394) والحاكم (1/496) وأبو نعيم في "الحلية" (9/306).