تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما{[7153]} أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : طرائقهم الحميدة واتباع{[7154]} شرائعه التي يحبها ويرضاها { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم{[7155]} والمحارم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله .


[7153]:في جـ، ر، أ: "فيما".
[7154]:في ر: "في اتباع".
[7155]:في ر، أ: "المأثم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } حلاله وحرامه ، { وَيهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يقول وليسددكم سنن الذين من قبلكم ، يعني : سبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه ومناهجهم ، فيما حرم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات ، وسائر ما حرم عليكم في الاَيتين اللتين بين فيهما ما حرم من النساء . { ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ } يقول : يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك مما كنتم عيه من معصيته في فعلكم ذلك قبل الإسلام ، وقبل أن يوحي ما أوحى إلى نبيه من ذلك عليكم ، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم . { وَاللّهُ عَلِيمٌ } يقول : والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم ، وغير ذلك من أمورهم ، وبما يأتون ويذرون ما أحلّ أو حرّم عليهم حافظ ذلك كله عليهم ، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه .

واختلف أهل العربية في معنى قوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } فقال بعضهم : معنى ذلك ، يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم ، وقال : ذلك كما قال : { وَأُمِرْتُ لاِءَعْدِلَ بَيْنُكُمْ } بكسر اللام ، لأن معناه : أمرت بهذا من أجل ذلك .

وقال آخرون : معنى ذلك : يريد الله أن يبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم¹ وقالوا : من شأن العرب التعقيب بين كي ولام كي وأن ، ووضع كل واحدة منهنّ موضع كل واحدة من أختها مع أردت وأمرت ، فيقولون : أمرتك أن تذهب ولتذهب ، وأردت أن تذهب ولتذهب ، كما قال الله جلّ ثناؤه : { وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } ، وقال في موضع آخر : «وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَن أسْلَمَ » ، وكما قال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ } ، ثم قال في موضع آخر : { يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا } واعتلوا في توجيههم «أن » مع «أمرت » و«أدت » إلى معنى «كي » وتوجيه «كي » مع ذلك إلى معنى «أن » لطلب «أردت » و«أمرت » الاستقبال ، وأنها لا يصلح معها الماضي ، لا يقال : أمرتك أن قمت ولا أردت أن قمت . قالوا : فلما كانت «أن » قد تكون مع الماضي في غير «أردت » و«أمرت » ، ذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال ، من «كي » واللام التي في معنى «كي »¹ قالوا : وكذلك جمعت العرب بينهنّ أحيانا في الحرف الواحد ، فقال قائلهم في الجمع :

أرَدْتَ لِكَيْما أنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ***فَتَتْرُكَهَا شَنّا بِبَيْدَاءَ بَلْقَعِ

فجمع بينهنّ لاتفاق معانيهنّ واختلاف ألفاظهنّ ، كما قال الاَخر :

ذ المَالَ الهِدانُ الجافِي ***بغير لا عَصْفٍ ولا اصْطِرَافِ

فجمع بين «غير » و«لا » ، توكيدا للنفي¹ قالوا : وإنما يجوز أن يجعل «أن » مكان كي ، وكي مكان أن في الأماكن التي لا يصحب جالب ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل¹ فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل فلا يجوز ذلك . لا يجوز عندهم أن يقال : ظننت ليقوم ، ولا أظنّ ليقوم ، بمعنى : أظنّ أن يقوم ، لأن التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل ، يقال : أظنّ أن قد قام زيد ومع المستقبل ومع الأسماء .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال : إن اللام في قوله : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } بمعنى : يريد الله أن يبين لكم¹ لما ذكرت من علة من قال إن ذلك كذلك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

{ يريد الله ليبن لكم } ما تعبدكم به من الحلال والحرام ، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم ، وليبين مفعول يريد واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة كما في قول قيس بن سعد :

أردت لكيما يعلم الناس أنه *** سراويل قيس والوفود شهود

وقيل المفعول محذوف ، وليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله . { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم . { ويتوب عليكم } ويغفر لكم ذنوبكم ، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي ويحثكم على التوبة ، أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم . { والله عليم } بها { حكيم } في وضعها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

اختلف النحاة في اللام من قوله : { ليبين } فمذهب سيبويه رحمه الله : أن التقدير «لأن يبين » والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن » لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن » وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [ الطويل ]

أريدُ لأنسى ذكرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[3966]}

وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى . { ويهديكم } بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال { سنن } : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً ، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة{[3967]} .

والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن { عليم } هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و { حكيم } أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .


[3966]:- الشاعر هو كثير عزة، وهذا جزء من أول البيت، وتمامه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل والفراء يرى أن العرب تعاقب بين لام (كي) و(أن)، فتأتي باللام التي على معنى (كي) في موضع (أن) في: أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، لأنهما يطلبان المستقبل، وفي التنزيل: [وأمرت لأعدل بينكم]. [يريدون ليطفئوا نور الله]، [يريدون أن يطفئوا نور الله]، وعلى ذلك يكون معنى بيت كثير عنده: أريد أن أنسى- قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول، وقال: لو كانت اللام بمعنى [أن] لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشدنا. أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وابن عطية على رأي الزجاج، وهو مذهب سيبويه، ولهذا علّق على رأي الفراء والكوفيين بقوله: "وهو ضعيف". هذا والبيت الذي أنشده الزجاج لقيس بن عبادة، وكان قد طاول روميا بين يدي معاوية فتجرد قيس من سراويله وألقاها إلى الرومي ففضلت عنه، وقال هذا البيت ومعه بيت آخر يعتذر من إلقاء سراويله في المشهد المجموع. راجع اللسان- مادة (سرل)
[3967]:- اختلف العلماء في قوله تعالى: [سنن الذين من قبلكم]- هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم أو على التشبيه، أي: سننا مثل سنن الذين من قبلنا؟ فمن قال إنه على ظاهره أراد أن السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة، وقيل: المراد بها ما ذكره سبحانه في قوله: [شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا]. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين. وعلى هذه الأقوال فالمراد بـ [الذين من قبلكم]: الأنبياء وأهل الخير- ومن قال إن ذلك على التشبيه أراد أن المعنى أن طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكذلك جعل طريقنا إلى شرائع الدين بالبيان والتفصيل-وقيل: الهداية في أحد أمرين... وهو الذي وضحه ابن عطية.