{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ }أي : كما أكرمتُكَ بما أنزلتُ عليك ، فاصبر على قضائه وقَدَره ، واعلم أنه سَيُدَبرك بحسن تدبيره ، { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } أي : لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صَدّك عما أنزل إليك{[29617]} بل بَلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وتوكل على الله ؛ فإن الله يعصمك من الناس . فالآثم هو الفاجر في أفعاله ، والكفور هو الكافر بقلبه .
قوله : إنّا نَحْنُ نَزّلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ تَنْزِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنا نحن نزّلنا عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلاً ، ابتلاء منا واختبارا فاصْبِرْ لِحُكُمِ رَبّكَ يقول : اصبر لما امتحنك به ر بك من فرائضه ، وتبليغ رسالاته ، والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك وَلتُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أو كَفُورا يقول : ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه ، أو كفورا : يعني جحودا لنعمه عنده ، وآلائه قِبلَه ، فهو يكفر به ، ويعبد غيره .
وقيل : إن الذي عني بهذا القول أبو جهل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال : نزلت في عدوّ الله أبي جهل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه ، فأنزل الله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا قال : الاَثِم : المذنب الظالم والكفور ، هذا كله واحد .
وقيل : أوْ كَفُورا والمعنى : ولا كفورا . قال الفرّاء : «أو » ههنا بمنزلة الواو ، وفي الجحد والاستفهام والجزاء تكون بمعنى «لا » ، فهذا من ذلك مع الجحد ومنه قول الشاعر :
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجَدْتُ وَلا *** وَجْدُ عَجُولٍ أضَلّها رُبَعُ
أوْ وَجْدُ شَيْخٍ أضَلّ ناقَتَهُ *** يَوْمَ تَوَافَى الْحَجِيجُ فانْدَفَعُوا
أراد : ولا وجدُ شيخ ، قال : وقد يكون في العربية : لا تطيعنّ منهم من أثم أو كفر ، فيكون المعنى في أو قريبا من معنى الواو ، كقولك للرجل : لأعطينك سألت أو سكتّ ، معناه : لأعطينك على كلّ حال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فاصْبِرْ لِحُكُمِ رَبّكَ" يقول: اصبر لما امتحنك به ر بك من فرائضه، وتبليغ رسالاته، والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك.
"وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أو كَفُورا" يقول: ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه، أو كفورا: يعني جحودا لنعمه عنده، وآلائه قِبلَه، فهو يكفر به، ويعبد غيره.
وقيل: إن الذي عني بهذا القول أبو جهل. عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه، فأنزل الله: "وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فاصبر لحكم ربك} ففيه أنه ابتلاه بما تكرهه نفسه، ويشتد عليها، حتى دعاه إلى الصبر، لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره والبليّات، وقد صبر عليه السلام على المكاره لأنه أمر بمضادّة الجن والإنس، فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى، وهموا بقتله.
{ولا تطع منهم آثما أو كفورا} كأنه قال: ولا تطع من دعاك إلى ما دعاك إلى ما تأثم فيه، أو تكون كفورا، أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوان إليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبر منك على أذاهم وضجراً من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {آثماً أو كفوراً} هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين، لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور، ولم تكن الأمة حينئذ من الكثرة بحيث يقع الإثم على العاصي.
{فاصبر لحكم ربك} في تأخير الإذن في القتال، ونظيره {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} أو يكون المعنى عاما في جميع التكاليف، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفا خاصا بك من العبادات والطاعات أو متعلقا بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة، وتحمل المشاق الناشئة من ذلك..
السؤال الثاني: أنه عليه السلام ما كان يطيع أحدا منهم، فما الفائدة في هذا النهي؟ (الجواب): المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم، لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات.
السؤال الرابع: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله: {آثما أو كفورا}؟ (الجواب): {الكفور} أخبث أنواع الآثم، فخصه بالذكر تنبيها على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
...انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان، فعمي عنه لإعراضه عنه، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبهاً على أمراض القلوب، ومرشداً إلى دوائها: {فاصبر لحكم ربك} أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله، وعلى كل ما ينوبك وأطعه في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسيف، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته، والصبر: حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات.
ولما أمره سبحانه بالصبر، وكان الأمر به مفهماً وجوده للمخالف، وكان المخالفون له صلى الله عليه وسلم هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم، وأخرى كفراً وتارة غير ذلك، ذكر النتيجة ناهياً عن القسمين الأولين ليعلم أن المسكوت عنه لا نهي فيه فقال: {ولا تطع منهم} أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي داعياً إلى إثم سواء كان مجرداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير، وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له صلى الله عليه وسلم يبذلون له الرغائب من الأموال، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم فهي عن كل منهما، فإن كلاًّ منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة
{وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [الأنعام: 120] وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.