{ والنازعات غرقا } أقسم الله تعالى في الآيات الخمس بطوائف من الملائكة موكلين بأعمال جسام بأمره تعالى – على أن الخلق لا بد أن يبعثوا ويحاسبوا في اليوم الآخر . وحذف جواب القسم لدلالة ما بعده عليه ، والتقدير لتبعثن . فأقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكافر من أقاصي أجسامهم نزعا بالغ الغاية في الشدة ؛ من النزع ، وهو جذب الشيء من مقره بشدة ، كنزع القوس عن كبده . " وغرقا " أي إغراقا ونزعا شديدا . يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته . ومنه قولهم : نزع في القوس فأغرق ، أي بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النصل . منصوب على المصدرية ، كذلك " نشطا " و " سبحا " و " سبقا " .
سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون ، نزلت بعد سورة النبأ . وقد بُدئت بالقَسم بأصناف من المخلوقات على إمكان البعث ووقوعه ، وأن الناس سيبعثون إلى ربهم ، في يوم تعظم فيه الأهوال وتضطرب القلوب ، وتخشع الأبصار . . ومع هذا كله يقول الجاحدون منكرين البعث : هل لنا عودة إلى الحياة ، بعد أن نكون عظاما بالية ! هذا شيء باطل ، وإن صح ما يقال عن البعث فنحن إذا خاسرون . ورد الله تعالى عليهم بأن الرجعة ليست عسيرة ، وإنما هي صيحة واحدة ، فإذا جميع الناس بأرض المحشر .
ثم يلتفت الحديث إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويقص عليه قصة موسى وفرعون وما آل أمره إليه ، وفي ذلك عظة لمن يخاف الله .
ثم يوجه الكلام إلى أولئك المنكرين ، فيقول لهم : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها . . . } أمَا خلق هذا الكون العجيب المنتظم وما فيه من الخيرات { متاعا لكم ولأنعامكم } ؟
فإذا قامت القيامة الكبرى ، ففي ذلك اليوم { يتذكر الإنسان ما سعى } ، ويكون الناس فريقين : سعداء وأشقياء . أما المؤمنون العاملون فإن مأواهم الجنة ، يتمتعون فيها بأعظم نعيم . وأما الأشقياء فمأواهم جهنم .
ثم يتوجه الحديث إلى الرسول الكريم . . يسألك الجاحدون يا محمد عن الساعة متى تكون ؟ فلا تشغلْ نفسك بها ، فإلى ربك منتهى علم الساعة ، وإنما أنت رسول مبعوث للإنذار وتحذير الناس من المعاصي . ويوم يشاهدون القيامة يظنون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار عشية أو ضحاها من شدة ذهولهم .
النازعات : الملائكة ، أو الكواكب .
لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الأشياء ، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس ، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته ، أو ذُهل من موضع العبرة فيه ، ولم ينتبه إلى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق . فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره ، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه .
فالقسَم بالنجوم ، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح ، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان ، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المخلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية ، وليس فيها شيء من صفات الألوهية .
ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته ، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق ، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى .
فأقسَم بالنازعاتِ ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة .
{ والنازعات غرقاً } يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أجسادهم ، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد ، والغرق اسم أقيم مقام الإغراق ، أي : والنازعات إغراقاً ، والمراد بالإغراق المبالغة في المد . قال ابن مسعود : ينزعها ملك الموت وأعوانه من تحت كل شعرة ومن الأظافير وأصول القدمين ، ويردها في جسده بعدما ينزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده بعدما ينزعها ، فهذا عمله بالكفار . وقال مقاتل : ملك الموت وأعوانه ينزعون أرواح الكفار كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل ، فتخرج نفسه كالغريق في الماء . وقال مجاهد : هو الموت ينزع النفوس . وقال السدي : هي النفس حين تغرق في الصدر . وقال الحسن وقتادة وابن كيسان : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب . وقال عطاء وعكرمة : هي القسي . وقيل : الغزاة الرماة .
سورة النازعات{[1]} وتسمى الساهرة{[2]} والطامة
مقصودها بيان أواخر{[3]}أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، و{[4]} وقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام{[5]} ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي{[6]} الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبر في تقرير الوفاق { بسم الله } الظاهر الباطن الملك العلام { الرحمن } الذي عم بالإنعام { الرحيم* } الذي خص {[7]}أهل ولايته{[8]} بالتمام ، فاختصوا بالإكرام في دار السلام .
لما ذكر سبحانه يوم{[71294]} يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم ، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى : { والنازعات } أي من الملائكة - كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم - للأرواح ولأنفسها من مراكزها{[71295]} في السماوات امتثالاً{[71296]} للأوامر الإليهة { غرقاً * } أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ أقصى المدّ ، وكان ذلك لنفوس الكفار{[71297]} والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول ، وعم ابن جرير{[71298]} كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال : والصواب أن يقال : إن الله تعالى لم يخصص ، فكل نازعة داخلة في قسمه - يعني الاعتبار بما آتاها{[71299]} الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده{[71300]} سبحانه .