( سورة النازعات مكية ، وآياتها 46 آية ، نزلت بعد سورة النبأ )
وهي نموذج من نماذج هذا الجزء ، لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة بهولها وضخامتها ، وفي الطريق إلى ذلك يمهّد السياق بمطلع غامض مثير ، يسوقه في إيقاع موسيقى راجف لاهث . ( الآيات : 1-5 ) .
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف ، يجئ المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ( الآيات 6-14 ) .
ثم يأخذ السياق في عرض حلقة من قصة موسى مع فرعون ، فيهدأ الإيقاع ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض . ( الآيات 15-26 ) .
ثم ينتقل السياق من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة ، في تعبيرات قوية الأثر تأخذ بالألباب . ( الآيات : 27-33 ) .
ثم يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة . ( الآيات 34-41 ) .
ثم يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها ، يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها . ( الآيات 42 -46 ) .
1-5- أقسم الله تعالى بالملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا ، أي مبالغة في النزع ، وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق ، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر ، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله ، فيدبرون ما يوكل إليكم من الأمور .
وقيل : أقسم الله تعالى بالنجوم ، تنزع في مداراتها وتتحرك ، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل ، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلقة به ، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها ، وتدبّر من النتائج والظواهر ما وكّله الله إليه ، مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .
وقيل : النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم ، والمدبّرات هي الملائكة ، وجملة القول : فهذه أوصاف لموصوفات أقسم الله بها لعظم شأنها ، وكل ما يصدق عليه الوصف يصح أن يكون تفسير للآيات ، وهذا من إعجاز القرآن الكريم .
6- 9- اذكر يا محمد يوم تضطرب الأرض ويرتجف كل من عليها ، وتنشق السماء ، ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، وهذه هي الراجفة أو النفخة الأولى في الصور ، يتبع ذلك النفخة الثانية ، التي يصحون عليها ويحشرون ، وهذه هي الرادفةi .
قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة والانهيار .
10-14- يقول الكافرون المنكرون للبعث : أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنا ؟ أنعود للحياة بعد تحلل أجسادنا في التراب ؟ إن صح هذا فهو الخسران الخالص والرجعة الخاسرة التي لم نحسب حسابها .
لا تستبعدوا ذلك أيها الكافرون ، فإنما هي صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور ، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة .
15- 26- تحكى الآيات قصة موسى عليه السلام ، وهي قصة تكررت في القرآن ، لما لقيه موسى من شدة المعاناة مع قومه ، فأصبح نموذجا للصبر والثبات ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) . ii .
وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة ؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه ، وكلّمه من وراء حجاب بالوادي المبارك من طور سيناء ( طوى )iii ، فقال له : اذهب إلى فرعون فإنه طغى وتجاوز الحد ، فتلطّف معه في القول وقل له : هل ترغب في أن تطهر نفسك من الآثام التي انغمست فيها ؟ وهل لك في الإيمان بالله ، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه ؟
بيد أن هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار ، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى ، وهي انقلاب العصا حية وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا يغلب ضوء الشمس ، فأنكر فرعون رسالة موسى ، وعصى أمر ربه ، ثم أعرض عن موسى ، وسعى في إيذائه ، وحث الناس على مقاومة دعوته ، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه ، فقام فيهم يقول : أنا ربكم الأعلى . الذي لا يدانيه أحد في القوة والعظمة ، وما زال في عتوّه وتطاوله حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر ( بحر القلزم ) عند خروجهم من مصر ، فأغرق فيه هو وجنوده ، تنكيلا به على ما صنع ، وله في الآخرة عذاب السعير ، وسيكون مثلا للأولين والآخرين . وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبر به في عواقب الأمور ، فيثوب إلى رشده ويتقي ربه .
27- 33- يخاطب الله منكري البعث ويرشدهم إلى أن بعثهم هين على الله ، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون ، فيقول لهم : هل أنتم أشد خلقا أم خلق السماء أصعب وأشق ؟ إنكم لا تنازعون في أنها أشد منكم خلقا ، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها ، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم ؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم .
قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ( غافر : 57 ) .
لقد رفع الله سمك السماء ، أي : بناءها ، وسمك كل شيء قامته وارتفاعه ، والسماء مرفوعة في تناسق كامل ، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، وقد جعل ليلها مظلما بمغيب كوكبها ، وأنار نهارها بظهور الضحى .
والأرض بعد ذلك دحاها . ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات .
أخرج منها ماءها ومرعاها . أي : فجّر منها العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها النبات ، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد ، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم .
متاعا لكم ولأنعامكم . أي : إنما جعلنا ذلك كله ليتمتع به الناس والأنعام ، وليتنبه الإنسان إلى عظمة التدبير والتقدير ، فإن بناء السماء على هذا النحو ، وإظلام الليل ، وإضاءة النهار ، وتمهيد الأرض ، وإخراج النبات والماء ، وإرساء الجبال ، لم يكن كل ذلك سدى ، وإنما كان متاعا لكم ولأنعامكم .
وهذا المدبر الحكيم وفّر لكم هذا الخير الكثير لتتمتعوا به ، ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء ، لإثابة الطائع ومعاقبة الطغاة والعصاة .
34- 41- فإذا جاءت الداهية العظمى التي تعلو على سائر الدواهي ، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه ، غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء ، عندئذ يتذكر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه ، حين يرى أعماله مدوّنة في كتابه ، وظهرت النار في مكان بارز ، حتى يراها كل ذي نظر ، عندئذ تختلف المصائر والعواقب ، فأما من تكبّر وعصى ربه وتجاوز حده ، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة ، فالنار مثواه ومستقره .
وأما من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى ، ونهى النفس عما تهواه وتميل إليه بحسب طبيعتها ، فإن الجنة سكون له مستقرا ومقاما .
42- 46- يسألك كفار قريش والمتعنتون من المشركين عن القيامة : أيّان مرساها . متى قيامها وظهورها ؟ وأين موعدها ؟
فيم أنت من ذكراها . إنها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها ، فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك ، إلى ربك ينتهي علم الساعة ، فلا يعلم وقت قيامها غيره ، ولم يعط علمها لملك مكرم ، ولا لبني مرسل ، إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ، ويعمل لها ويتوقعها .
وإذا جاءت الساعة ، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها ، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها ، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة ، وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها ، فكأنما الدنيا ساعة من نهار ، أفمن أجل ساعة من نهار يضيع الإنسان الجنة والخلود في رضوانها ؟
قال تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . . . ( الروم : 55 ) .
أي أن الدنيا أو الحياة الفانية ليست إلا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة .
قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى . ( الأعلى : 16 ، 17 ) .
2- مقالة المشركين في إنكاره والرد عليهم .
3- قصة موسى مع فرعون ، وفيها عاقبة الطغاة .
6- الناس في هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء .
7- تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها .
8- نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحث عنها .
9- ذهول المشركين من شدة الهول ، والاستهانة بالدنيا حين يرون الآخرة .
{ والنّازعات غرقا 1 والنّاشطات نشطا 2 والسّابحات سبحا 3 فالسّابقات سبقا 4 فالمدبّرات أمرا 5 يوم ترجف الرّاجفة 6 تتبعها الرّادفة 7 قلوب يومئذ واجفة 8 أبصارها خاشعة 9 يقولون أئنّا لمردودون في الحافرة 10 أئذا كنا عظاما نخرة 11 قالوا تلك إذا كرّة خاسرة 12 فإنما هي زجرة واحدة 13 فإذا هم بالسّاهرة 14 }
والنازعات : أقسم الله بالملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم .
غرقا : نزعا شديدا مؤلما بالغ الغاية .
أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بقسوة وشدة من أقاصي أجسامهم ، نزعا بالغ الصعوبة والعسر ، حيث تنزع روح الكافر من أقاصي جسده ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافر وأصول القدمين .
وفي الحديث الشريف ما يفيد أن روح الكافر تنزع بشدة ، حيث يكابد الكافر أشد الآلام في خروج روحه ، وأن روح المؤمن تنزع برفق ويسر ، وتخرج بسهولة ولطف ، كما تنزل القطرة من فم السّقاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.