تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النازعات

أهداف سورة النازعات

( سورة النازعات مكية ، وآياتها 46 آية ، نزلت بعد سورة النبأ )

وهي نموذج من نماذج هذا الجزء ، لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة بهولها وضخامتها ، وفي الطريق إلى ذلك يمهّد السياق بمطلع غامض مثير ، يسوقه في إيقاع موسيقى راجف لاهث . ( الآيات : 1-5 ) .

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف ، يجئ المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ( الآيات 6-14 ) .

ثم يأخذ السياق في عرض حلقة من قصة موسى مع فرعون ، فيهدأ الإيقاع ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض . ( الآيات 15-26 ) .

ثم ينتقل السياق من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة ، في تعبيرات قوية الأثر تأخذ بالألباب . ( الآيات : 27-33 ) .

ثم يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة . ( الآيات 34-41 ) .

ثم يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها ، يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها . ( الآيات 42 -46 ) .

مع آيات السورة

1-5- أقسم الله تعالى بالملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا ، أي مبالغة في النزع ، وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق ، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر ، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله ، فيدبرون ما يوكل إليكم من الأمور .

وقيل : أقسم الله تعالى بالنجوم ، تنزع في مداراتها وتتحرك ، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل ، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلقة به ، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها ، وتدبّر من النتائج والظواهر ما وكّله الله إليه ، مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .

وقيل : النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم ، والمدبّرات هي الملائكة ، وجملة القول : فهذه أوصاف لموصوفات أقسم الله بها لعظم شأنها ، وكل ما يصدق عليه الوصف يصح أن يكون تفسير للآيات ، وهذا من إعجاز القرآن الكريم .

6- 9- اذكر يا محمد يوم تضطرب الأرض ويرتجف كل من عليها ، وتنشق السماء ، ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، وهذه هي الراجفة أو النفخة الأولى في الصور ، يتبع ذلك النفخة الثانية ، التي يصحون عليها ويحشرون ، وهذه هي الرادفةi .

قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة والانهيار .

10-14- يقول الكافرون المنكرون للبعث : أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنا ؟ أنعود للحياة بعد تحلل أجسادنا في التراب ؟ إن صح هذا فهو الخسران الخالص والرجعة الخاسرة التي لم نحسب حسابها .

لا تستبعدوا ذلك أيها الكافرون ، فإنما هي صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور ، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة .

15- 26- تحكى الآيات قصة موسى عليه السلام ، وهي قصة تكررت في القرآن ، لما لقيه موسى من شدة المعاناة مع قومه ، فأصبح نموذجا للصبر والثبات ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) . ii .

تقول الآيات :

وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة ؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه ، وكلّمه من وراء حجاب بالوادي المبارك من طور سيناء ( طوى )iii ، فقال له : اذهب إلى فرعون فإنه طغى وتجاوز الحد ، فتلطّف معه في القول وقل له : هل ترغب في أن تطهر نفسك من الآثام التي انغمست فيها ؟ وهل لك في الإيمان بالله ، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه ؟

بيد أن هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار ، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى ، وهي انقلاب العصا حية وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا يغلب ضوء الشمس ، فأنكر فرعون رسالة موسى ، وعصى أمر ربه ، ثم أعرض عن موسى ، وسعى في إيذائه ، وحث الناس على مقاومة دعوته ، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه ، فقام فيهم يقول : أنا ربكم الأعلى . الذي لا يدانيه أحد في القوة والعظمة ، وما زال في عتوّه وتطاوله حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر ( بحر القلزم ) عند خروجهم من مصر ، فأغرق فيه هو وجنوده ، تنكيلا به على ما صنع ، وله في الآخرة عذاب السعير ، وسيكون مثلا للأولين والآخرين . وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبر به في عواقب الأمور ، فيثوب إلى رشده ويتقي ربه .

27- 33- يخاطب الله منكري البعث ويرشدهم إلى أن بعثهم هين على الله ، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون ، فيقول لهم : هل أنتم أشد خلقا أم خلق السماء أصعب وأشق ؟ إنكم لا تنازعون في أنها أشد منكم خلقا ، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها ، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم ؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم .

قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ( غافر : 57 ) .

لقد رفع الله سمك السماء ، أي : بناءها ، وسمك كل شيء قامته وارتفاعه ، والسماء مرفوعة في تناسق كامل ، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، وقد جعل ليلها مظلما بمغيب كوكبها ، وأنار نهارها بظهور الضحى .

والأرض بعد ذلك دحاها . ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات .

أخرج منها ماءها ومرعاها . أي : فجّر منها العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها النبات ، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد ، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم .

متاعا لكم ولأنعامكم . أي : إنما جعلنا ذلك كله ليتمتع به الناس والأنعام ، وليتنبه الإنسان إلى عظمة التدبير والتقدير ، فإن بناء السماء على هذا النحو ، وإظلام الليل ، وإضاءة النهار ، وتمهيد الأرض ، وإخراج النبات والماء ، وإرساء الجبال ، لم يكن كل ذلك سدى ، وإنما كان متاعا لكم ولأنعامكم .

وهذا المدبر الحكيم وفّر لكم هذا الخير الكثير لتتمتعوا به ، ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء ، لإثابة الطائع ومعاقبة الطغاة والعصاة .

34- 41- فإذا جاءت الداهية العظمى التي تعلو على سائر الدواهي ، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه ، غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء ، عندئذ يتذكر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه ، حين يرى أعماله مدوّنة في كتابه ، وظهرت النار في مكان بارز ، حتى يراها كل ذي نظر ، عندئذ تختلف المصائر والعواقب ، فأما من تكبّر وعصى ربه وتجاوز حده ، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة ، فالنار مثواه ومستقره .

وأما من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى ، ونهى النفس عما تهواه وتميل إليه بحسب طبيعتها ، فإن الجنة سكون له مستقرا ومقاما .

42- 46- يسألك كفار قريش والمتعنتون من المشركين عن القيامة : أيّان مرساها . متى قيامها وظهورها ؟ وأين موعدها ؟

فيم أنت من ذكراها . إنها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها ، فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك ، إلى ربك ينتهي علم الساعة ، فلا يعلم وقت قيامها غيره ، ولم يعط علمها لملك مكرم ، ولا لبني مرسل ، إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ، ويعمل لها ويتوقعها .

وإذا جاءت الساعة ، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها ، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها ، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة ، وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها ، فكأنما الدنيا ساعة من نهار ، أفمن أجل ساعة من نهار يضيع الإنسان الجنة والخلود في رضوانها ؟

قال تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . . . ( الروم : 55 ) .

أي أن الدنيا أو الحياة الفانية ليست إلا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة .

قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى . ( الأعلى : 16 ، 17 ) .

موضوعات سورة النازعات

1- إثبات البعث .

2- مقالة المشركين في إنكاره والرد عليهم .

3- قصة موسى مع فرعون ، وفيها عاقبة الطغاة .

4- آيات الله في الآفاق .

5- أهوال يوم القيامة .

6- الناس في هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء .

7- تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها .

8- نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحث عنها .

9- ذهول المشركين من شدة الهول ، والاستهانة بالدنيا حين يرون الآخرة .

الحلف على وقوع البعث

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والنّازعات غرقا 1 والنّاشطات نشطا 2 والسّابحات سبحا 3 فالسّابقات سبقا 4 فالمدبّرات أمرا 5 يوم ترجف الرّاجفة 6 تتبعها الرّادفة 7 قلوب يومئذ واجفة 8 أبصارها خاشعة 9 يقولون أئنّا لمردودون في الحافرة 10 أئذا كنا عظاما نخرة 11 قالوا تلك إذا كرّة خاسرة 12 فإنما هي زجرة واحدة 13 فإذا هم بالسّاهرة 14 }

المفردات :

والنازعات : أقسم الله بالملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم .

غرقا : نزعا شديدا مؤلما بالغ الغاية .

التفسير :

1- والنّازعات غرقا .

أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بقسوة وشدة من أقاصي أجسامهم ، نزعا بالغ الصعوبة والعسر ، حيث تنزع روح الكافر من أقاصي جسده ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافر وأصول القدمين .

وفي الحديث الشريف ما يفيد أن روح الكافر تنزع بشدة ، حيث يكابد الكافر أشد الآلام في خروج روحه ، وأن روح المؤمن تنزع برفق ويسر ، وتخرج بسهولة ولطف ، كما تنزل القطرة من فم السّقاء .