لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر المشركين بالبعث في اليوم الآخر للجزاء – استبعدوا ذلك ؛ فمنهم من جحده وعده من المحال وقال : " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " {[1]} . ومنهم من ارتاب فيه وقال : " ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين " {[2]} . وأخذوا يتساءلون فيما بينهم سؤال استهزاء وإنكار ، فأنزل الله تعالى تقريعا لهم ووعيدا : { عم يتساءلون }
{ عم يتساءلون } عن أي شيء يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا . أو يسائلون الرسول صلى الله لعيه وسلم والمؤمنين استهزاء . و " عم " أصلها : عن ما ؛ فأدغمت النون في ما الاستفهامية ، وحذفت ألفها للتخفيف . وفي الاستفهام وإبهام المستفهم عنه إشعار بفخامة أمره ، وتشويق للسامعين على معرفة شأنه ؛ فبينه الله تعالى بقوله : { عن النبأ العظيم }
سورة النبأ مكية وآياتها أربعون ، نزلت بعد سورة المعارج . وهذا الجزء هو الثلاثون من أجزاء القرآن الكريم وهو آخرها ، ويحتوي على سبع وثلاثين سورة كلها مكية ما عدا ثلاث سور هي : البيّنة والزلزلة والنصر . وهو كسائر السور المكية ، ولكنه يمتاز بسوره القصيرة ، وطابعها الخاص الذي يجعلها وحدة على وجه التقريب : في موضوعها واتجاهها وإيقاعها وأسلوبها العام . ويكاد يحس القارئ وهو يقرأ : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } . { فلينظر الإنسان ممّ خلق } { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ؟ وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت } إلخ . . يكاد يحس ويلمس هذا التذكير بالأنفس والآفاق وهذا الكون العجيب ويتّعظ به ويملأ نفسه وقلبه .
وتعرض سورة النبأ سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتهديد المشركين على إنكارهم لوحدانية الله ورسالات المرسلين . ثم تتحدث عن أحداث يوم القيامة ، وما يلاقيه المكذبون من العذاب ، وفوز المتقين بجنات النعيم ، في ذلك اليوم الذي هو حق لا ريب فيه ، حيث يتمنى الكافرون لو كانوا ترابا . وفي السورة الكريمة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه ومشاهده وصوره وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة . وأن اختيار الألفاظ والعبارات لَيوقع أثرا كبيرا في الحس والنفس والضمير .
عم ، أصلها عن ما : عن أي شيء يتساءلون .
كان الناس في مكة وغيرها في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بعضُهم بعضا عن رسالة النبي ، ويسألون غيرهم ممن عنده عِلم فيقولون : هل هو رسول من عند الله ؟ وما هذا الخبر الذي جاء به ويدعي أنه مرسَل من قِبل الله ، ويدعو إلى توحيده وإلى الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر ؟ وكان هذا شيئا جديدا عليهم ، فردّ الله عليهم بقوله تعالى :
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }
قوله تعالى : " عم " لفظ استفهام ؛ ولذلك سقطت منها ألف " ما " ، ليتميز الخبر عن الاستفهام . وكذلك ( فيم ، ومم ) إذا استفهمت . والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا . وقال الزجاج : أصل " عم " عن ما فأدغمت النون في الميم ؛ لأنها تشاركها في الغنة . والضمير في " يتساءلون " لقريش . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت " عم يتساءلون " ؟ وقيل : " عم " بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون .
سورة عم يتساءلون{[1]} وتسمى سورة النبأ
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة-الذي{[2]} كانوا مجمعين على نفيه ، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل{[3]} شكا ولا خلافا بوجه ، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير ، بنى لهم مسكنا وأتقنه ، و{[4]} جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه ، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض ، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم ، والحكيم لا يترك عبيده{[5]}- وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب ، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين ، هذا ما لا يجوز في عقل{[6]} ولا يخطر ببال أصلا ، فالعلم {[7]}واقع به{[8]} قطعا ، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره [ و-{[9]} ] غايته { بسم الله } الحكيم العليم{[10]}الذي{[11]} له جميع صفات الكمال ( الرحمن ) الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد و{[12]} الجاه والمال{[13]} ، وبيان الطريق الأقوم بالعقل الهادي والإنزال والإرسال { الرحيم* } الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم{[14]} فوفقهم لمحاسن{[15]} الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر ، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء ، افتتح هذه بأن{[16]} ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول{[17]} في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان ، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم ، ولا يعرف محل نزاعهم ، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه{[18]} لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره{[19]} فيه وأنه لا ينبغي التساؤل [ إلا- ]{[20]} عما هو خفي فقال :
{ عمَّ } أي عن أي شيء - خفف لفظاً وكناية بالإدغام ، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف ، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف { يتساءلون * } أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم ، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم{[71035]} وعنادهم - إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته - مطلق سؤال .