صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

{ ومهيمنا عليه }رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير ، حيث يشهد لها بالصحة ، ويقرر أصول شرائعها ، وما شرع مؤبدا من فروعها ، وما نسخ منها ، من الهيمنة وهي الحفظ والارتقاب . يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه : قد هيمن عليه ، وهو مهيمن .

{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }الخطاب للأمم الثلاثة . والشرعة : الشريعة وهي الطريق الظاهر الموصل للماء . والمراد بها الدين . وسمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء ، من حيث إن كلا سبب الحياة . والمنهاج : الطريق الواضح في الدين ، من نهج الأمر ينهج إذا وضح . والعطف باعتبار جمع الأوصاف . وقيل : هما بمعنى واحد هو الطريق ، والتكرير للتأكيد . أي ولكل أمة من الأمم الحاضرة والغابرة وضعنا شرعة و منهاجا خاصين بها . فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتها ما في التوراة ، والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد عليهما الصلاة والسلام شرعتها ما في الإنجيل ، وأما هذه الأمة فشرعتها ما في القرآن فقط ، فآمنوا به واعملوا به ، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا الإيمان به .

{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة }أي ولو شاء الله أن يجعل الأمم جميعا تدين بدين واحدة وملة واحدة في جميع الأعصار لفعل ، ولكنه تعالى حكيم خبير يعلم ما للأمم والعصور من خصائص و طبائع ، وما يناسب كل أمة من أحكام وشرائع يستقيم بها أمرها وتقتضيه مصلحتها ، فانزل شرائع شتى ، تتفق جميعها في الأصول ، ويختلف بعض أحكامها في الفروع باختلاف الأمم والعصور ، ومن الطبيعي أن ينسخ بعضها بعضا في بعض الأحكام . واقتضت حكمته تعالى أن يختم شرائعه بشريعة عامة كاملة في العلم ، وبعث به خاتم رسله وأفضل خلقه ، وأمره ببيانه للناس ، فمنهم من أدرك هذه الحكمة ، فعرف ربه حق المعرفة ، وأمن به وبكتبه ورسله وعمل بأحكامه . ومنهم من جهلها فجمدت قريحته وفسدت سريرته ، وآمن ببعض وكفر ببعض ، فكان لله عاصيا ، ولحكمته جاحدا ، ولرسله مكذبا ، وعن كتبه معرضا ، وبغضب الله حقيقا ، ولنقمته أهلا .