الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأنزلنا إليك الكتاب} يا محمد صلى الله عليه وسلم، {بالحق}، يعني القرآن بالحق، لم ننزله عبثا ولا باطلا لغير شيء، {مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}، يقول: وشاهدا عليه، وذلك أن قرآن محمد صلى الله عليه وسلم شاهد بأن الكتب التي أنزلت قبله أنها من الله عز وجل، {فاحكم بينهم بما أنزل الله إليك} في القرآن، {ولا تتبع أهواءهم}، يعني أهواء اليهود، {عما جاءك من الحق}، وهو القرآن، {لكل جعلنا منكم شرعة}، يعني من المسلمين وأهل الكتاب، {شرعة}، يعني سنة، {ومنهاجا}، يعني طريقا وسبيلا، فشريعة أهل التوراة في قتل العمد القصاص ليس لهم عقل ولا دية، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا. وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو، ليس لهم قصاص ولا دية، وشريعتهم في الزنا الجلد بلا رجم، وشريعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قتل العمد القصاص والدية والعفو، وشريعتهم في الزنا إذا لم يحصن الجلد، فإذا أحصن فالرجم.

{ولو شاء الله لجعلكم} يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب، {أمة واحدة} على دين الإسلام وحده، {ولكن ليبلوكم}، يعني يبتليكم {في ما آتاكم}: فيما أعطاكم من الكتاب والسنة من يطع الله عز وجل فيما أمر ونهى، ومن يعصه {فاستبقوا الخيرات}، يقول: سارعوا في الأعمال الصالحة يا أمة محمد، فيما ذكر من السبيل والسنة، {إلى الله مرجعكم جميعا} في الآخرة أنتم وأهل الكتاب، {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}: في الدين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى ذكره: وأنْزَلْنا إلَيْكَ يا محمد الكِتابَ، وهو القرآن الذي أنزله عليه. "بالحَقّ": بالصدق، ولا كذب فيه، ولا شكّ أنه من عند الله. "مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ "يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه. "وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ" يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله، وشهيدا عليها أنها حقّ من عند الله، أمينا عليها، حافظا لها. وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن.

وقال ابن جريج وآخرون: القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر إن كان في القرآن فصدَقوا، وإلا فكذَبوا.

عن ابن عباس، قوله: "وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ" وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقا لهما. "مُهَيْمِنا عَلَيْهِ" يعني: أمينا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب.

وقال آخرون: معنى المهيمن: المصدّق. قال ابن زيد في قوله: وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال: مصدّقا عليه. كلّ شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدّق على ذلك، وكلّ شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدّق عليها وعلى ما حدّث عنها أنه حقّ.

"فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقّ": وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل، بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم يا محمد بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي، في كلّ ما احتكموا فيه إليك من الحدود والجروح والقود والنفوس، فارجم الزاني المحصن، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنزلت إليك القرآن مصدّقا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنا عليه، رقيبا يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله. ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين يقولون: إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تُؤتوه فاحذروا... [ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود] عن الذي جاءك من عند الله من الحقّ، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك، فاخترت الحكم عليهم، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم وإيثارا لها على الحقّ الذي أنزلته إليك في كتابي.

"لِكُلّ جَعَلنْا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا": لكلّ قوم منكم جعلنا شرعة. والشرعة: هي الشريعة بعينها، تجمع الشرعة شراعا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكلّ ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، ومن ذلك قيل لشريعة الماء: شريعة، لأنه يشرع منها إلى الماء، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع، لشروع أهله فيه، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء: هم شَرَعٌ سواء. وأما المنهاج، فإن أصله: الطريق البين الواضح، يقال منه: هو طريق نَهْجٌ ومَنْهجٌ بيّن، ثم يستعمل في كلّ شيء كان بينا واضحا يعمل به.

ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: "لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ"؛ فقال بعضهم: عني بذلك أهل الملل المختلفة، أي أن الله جعل لكلّ ملة شريعة ومنهاجا. عن قتادة، قوله: "لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا" يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلّ الله فيها ما يشاء ويحرّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل... الدين واحد، والشريعة مختلفة.

عن عليّ، قال: الإيمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرّ تاركا ولكنه مطيع.

وقال آخرون: بل عنى بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس لكلكم: أي لكلّ من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيّ، شِرعة ومنهاجا... من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا، يقول: القرآن هو له شرعة ومنهاج.

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: لكلّ أهل ملة منكم أيها الأمم جعلنا شرعة ومنهاجا.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لقوله: "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً" ولو كان عني بقوله: لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ أمة محمد وهم أمة واحدة، لم يكن لقوله: "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً" وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم، ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدّم إليهم بالعمل بما فيها. ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبرها أنه أنزل إليه الكتاب مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله الذين قصّ عليهم قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكلّ واحد منهم، ولأمته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم...

عن ابن عباس: "لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا" قال: سنة وسبيلاً.

"وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ": ولو شاء ربكم لجعل شرائعك واحدة، ولم يجعل لكلّ أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدة، لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعك ليختبركم فيعرف المطيع منكم من العاصي والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من المخالف. والابتلاء: هو الاختبار. وقوله "فِيما آتاكُمْ" يعني: فيما أنزل عليكم من الكتب.

فإن قال قائل: وكيف قال: "ليبلوكم فيما آتاكم"، ومن المخاطب بذلك، وقد ذكرت أن المعنى: لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لكلّ نبيّ مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمخاطب النبيّ وحده؟ قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم، ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلّب المخاطب فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره: "لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا".

"فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ": فبادروا أيها الناس إلى الصالحات من الأعمال والقرب إلى ربكم بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء، ليتبين المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه، فإن مصيركم إليه جميعا، فيخبر كلّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى، فيفصل بينهم بفصل القضاء، ويبين المحقّ بمجازاته إياه بجناته من المسيء بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كلّ حزب عيانا، المحقّ منهم من المبطل.

فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟ قيل: إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانا، فمصدّق بذلك ومكذّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحقّ والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم، فكذلك خبره تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعا، فتعرفون المحقّ حينئذ من المبطل منكم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} أي على دين واحد، وهو دين الإسلام، لم يجعل كافرا ولا مشركا، ولكن امتحنكم بأديان مختلفة على ما تختارون، وتؤثرون...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}. لا تتملكك مودَّةُ قريبٍ أو حميمٍ، واعتنِقْ ملازمةَ أمرِ الله -تبارك وتعالى- بترك كل نصيبٍ لك.

ثم قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يعني طريقةً وسُنَّة؛ أي أفردنا كلَّ واحدٍ منكم -معاشِرَ الأنبياء- بطريقة، وأمَّا أنت فلا يدانيك في طريقتك أحد، وأنت المقدَّمُ على الكافة، والمُفَضَّلُ على الجملة، ولو شاء الله لَسَوَّى مراتَبَكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفَضَّلَ بعضكم على بعض امتحاناً. قوله جلّ ذكره: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. مسارعة كل أحد على ما يليق بوقته؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد. ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقَطْعِ الهوى، واستباق العارفين بنفي المُنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعُقبى.

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

قوله تعالى: {فاستَبِقُوا الخَيْراتِ}، يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها.

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

525- تصديق القرآن لما بين يديه معناه: أن الكتب المنزلة المتقدمة عند نزولها قبل تغييرها وتخبيطها كانت حقا موافقة للقرآن، والقرآن موافق لها، وليس المراد الكتب الموجودة اليوم، فإن لفظ التوراة والإنجيل إنما ينصرف إلى المنزلين. (الأجوبة الفاخرة: 100)

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى، فترك ذكره للمعرفة بذلك، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوّته، وإذا أنكرته أنكرت كتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه. ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الكتاب، ومن أنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب، لأنه أنص على المقصود. وكثيراً ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق: ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه، لما كان متضمناً حقائق الأمور، فكأنه نزل بها...

{ولا تتبع أهواءهم} أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع. {عما جاءك من الحّق} الذي هو القرآن. وضمن تتبع معنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي: لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم، أو بسبب أهوائهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر سبحانه الكتابين، ذكر ختامهما وتمامهما، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان الشاهد على جميع الكتب التي قبله، فقال تعالى: {وأنزلنا} أي بعظمتنا {إليك} أي خاصة {الكتاب} أي الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن {بالحق} أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقال {مصدقاً لما بين يديه} أي تقدمه.

ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد، عبر بالمفرد لإفادته ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال: {من الكتاب} أي الذي جاء به الأنبياء من قبل {ومهيمناً} أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً {عليه} أي على كل كتاب تقدمه -كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها، فما كان فيها موافقاً له فهو حق، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين، فملته ناسخة لجميع الملل، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه؛ فلذا قال مسبباً عما قبله: {فاحكم بينهم} أي بين جميع أهل الكتب، فغيرهم من باب الأولى {بما أنزل الله} أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك {ولا تتبع أهواءهم} فيما خالفه منحرفين {عما جاءك} وبينه بقوله: {من الحق}.

ولما كان كل من كتابيهم من عند الله، كان كأنه قيل: كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله: {لكل} أي لكل واحد {جعلنا} أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره، ثم خصص الإبهام بقوله: {منكم} أي يا أهل الكتب {شرعة} أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية {ومنهاجاً} أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع، وهذا وأمثاله- مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله -محمول على الفروع، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول {ولو شاء الله} أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد {لجعلكم أمة} أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً، وحقق المراد بقوله: {واحدة} أي على دين واحد، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع، لأن الكل بمشيئته، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته {ولكن} لم يشأ ذلك، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة {ليبلوكم} أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر {فيما آتاكم} أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة.

ولما كان في الاختبار أعظم تهديد، سبب عنه قوله: {فاستبقوا الخيرات} أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له، ثم علل ذلك بقوله: {إلى الله} أي الشارع لذلك، لا إلى غيره، لأنه الملك الأعلى {مرجعكم جميعاً} وإن اختلفت شرائعكم، حساً في القيامة، ومعنى في جميع أموركم في الدارين {فينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً {بما كنتم} أي بحسب اختلاف الجبلات؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام، و كان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس، قال {فيه تختلفون} أي تجددون الخلاف مستمرين عليه، ويعطي كلاماً يستحقه، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآيات تتمة السياق. بين الله تعالى شأنه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل، وما أودعه فيهما من هدى ونور، وما حتم عليهم من إقامتهما، وما شدد عليهم من إثم ترك الحكم بهما فناسب بعد ذلك أن يذكر إنزاله القرآن على خاتم النبيين والمرسلين، ومكانه من الكتب التي قبله، وكون حكمته تعالى اقتضت تعدد الشرائع ومناهج الهداية – فتلك مقدمات ووسيلة، وهذا هو المقصد والنتيجة.

قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي أنزلنا إليك الكتاب الكامل الذي أكملنا به الدين، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه معنى الكتاب الإلهي عند الإطلاق، وهو القرآن المجيد – هذه حكمة التعبير بالكتاب بعد التعبير عن كتاب موسى باسمه الخاص (التوراة) وعن كتاب عيسى باسمه الخاص (الإنجيل) – ومثل هذا إطلاق لفظ النبي حتى في كتبهم – وقوله بالحق الخ معناه أنزلناه متلبسا بالحق مؤيدا به، مشتملا عليه مقررا له، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، مصدقا لما تقدم من جنس الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، أي ناطقا بتصديق كونها من عند الله، وأن الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم.

وأما قوله: ومهيمنا عليه – أي على جنس الكتاب الإلهي – فمعناه أنه رقيب عليها وشهيد، بما بينه من حقيقة حالها، في أصل إنزالها، وما كان من شأن من خوطبوا بها، من نسيان حظ عظيم منها وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي منها وتأويله، والإعراض عن الحكم والعمل بها، فهو يحكم عليها لأنه جاء بعدها. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: (ومهيمنا عليه) يعني أمينا عليه، يحكم على ما كان قبله من كتب. وفي رواية عنه عند الفريابي وسعيد بن منصور والبيهقي ورواة التفسير المأثور قال: مؤتمنا عليه. وفي رواية أخرى قال: شهيدا على كل كتاب قبله.

لسان العرب: وقال ابن الأنباري في قوله: (مهيمنا عليه) قال المهيمن (أي من أسماء الله) القائم على خلقه...

قال: وفي المهيمن خمسة أقوال – قال ابن عباس: المهيمن المؤتمن، وقال الكسائي المهيمن الشهيد. وقال غيره هو الرقيب، يقال هيمن يهيمن هيمنة إذا كان رقيبا على الشيء. وقال أبو معشر: (مهيمنا عليه) معناه وقبَّانا عليه. وقيل وقائما على الكتب. اه. والظاهر من مجموع الأقوال أن المهيمن على الشيء هو من يقوم بشؤونه ويكون له حق مراقبته والحكم في أمره بحق، كما وصف بذلك أبو بكر (رض) في قيامه بأعباء خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والقيام بالأمر يستلزم المراقبة والائتمان والشهادة عليه.

ومن الغرائب أن بعض المفسرين فهم من هيمنة القرآن على الكتب التي قبله أنه يشهد لها بالحفظ من التحريف والتبديل!. واللفظ لا يدل على هذا المعنى، فإذا كان معنى المهيمن الشهيد فهل يصح أن يتحكموا في شهادته كما يشاءون؟ أم الواجب عليهم الرجوع إلى ما قاله في شأن هذه الكتب وأهلها، لأنه هو نص شهادته لها ولهم، أو عليها وعليهم، والقرآن يفسر بعضه بعضا – وحسبهم أنه قال في هذه السورة نفسها في كل من أهل التوراة والإنجيل أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، كما قال في سورة النساء قبلها أنهم {أونوا نصيبا من الكتاب} [آل عمران:23]. وقال فيهما جميعا أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} [البقرة: 136] الآية رواه البخاري في صحيحه، وذكر أن سببه أنه كان بعض أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها لبعض المسلمين بالعربية، فنهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستماع إليهم وقبول كلامهم بهذا الحديث. يوضحه ما رواه أحمد والبزار – واللفظ له – من حديث جابر قال: نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يقرأ – ووجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتغير – فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل. والله لو كان موسى بين أظهرهم ما حل له إلا اتباعي) وورد هذا المعنى أحاديث أخرى ضعيفة.

والمراد من النهي عن سؤالهم النهي عن سؤال الاهتداء، وتلقي ما يرونه بالقبول، لأجل العلم بالشرائع الماضية وأخبار الأنبياء، لزيادة العلم أو لتفصيل بعض ما أجمله القرآن. وسببه ما هو ظاهر من السياق، وهو أنهم لنسيانهم بعض ما أنزل إليهم وتحريفهم لبعضه بطلت الثقة بروايتهم، فالمصدق لها عرضة لتصديق الباطل، والمكذب لها عرضة لتكذيب الحق، إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين المحفوظ السالم من التحريف وغيره، فالاحتياط أن لا نصدقهم ولا نكذبهم. إلا إذا رووا شيئا يصدقه القرآن أو يكذبه، فإنا نصدق ما صدقه، ونكذب ما كذبه، لأنه مهيمن على تلك الكتب وشهيد عليها، وشهادته حق، لأنه نزل بالحق، وحفظه الله من التحريف والتبديل، بتوفيق المسلمين لحفظه في الصدور والسطور، ومن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، وسيحفظه كذلك إلى آخر الزمان {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ولا يعارض هذا قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} [النحل:43] لأن ذلك ورد في سؤال عن أمر متواتر قطعي وهو أن الرسل كانوا رجالا يوحى إليهم.

{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} أي إذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله – وهو أنه قائم بأمر الدين بعدها، ورقيب وشهيد عليها، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك من الأحكام والحدود، دون ما أنزل إليهم، لأن شرعك ناسخ لشرائعهم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} أي ولا تتبع ما يهوون – وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخف احتماله – مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب، ولو إلى ما صح من شريعتهم بما نقصه عليك منها. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فهذه الجملة استئناف بياني لتعليل الأمر والنهي قبلها. أي لكل رسول أو لكل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها، لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية، تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر. وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان.

والشرعة والشريعة في اللغة الطريق إلى الماء، أو مورد الماء من النهر ونحوه، وهذا هو المستعمل عن العرب حتى الآن. وهي من الشروع في الشيء. قال ابن جرير: وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن ذلك قيل لشريعة الماء شريعة، لأنه يشرع منها إلى الماء، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع لشروع أهله فيه، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء: هم شرع، سواء. وأما المنهاج، فإن أصله الطريق البين الواضح...

وقال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة روي وتطهر، والمراد الري المعنوي وطهارة النفس وتزكيتها، وقد جعل الله الماء سبب الحياة النباتية والحيوانية، وجعل الشريعة سبب الحياة الروحية الإنسانية.

أخرج غير واحد من رواة التفسير المأثور عن قتادة في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول سبيلا وسنة. والسنن مختلفة، للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، كي يعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل. وفي رواية عنه: الدين واحد والشريعة مختلفة. وروى ابن جرير من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال في تفسير (شرعة ومنهاجا) سنة وسبيلا. وظاهر من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له، وإنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها، وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. وهذا يوافق أو يقارب عرف الأمم حتى اليوم، لا يطلقون اسم الشريعة إلا على الأحكام العملية، بل يخصونها بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام، دون ما يدان الله تعالى به من أحكام الحلال والحرام.

ولا تجد هذا الحرف في القرآن إلا في هذه الآية – وفي قوله تعالى من سورة الشورى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى – أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] وقوله منها: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}؟ [الشورى: 21] – وفي قوله من سورة الجاثية: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية: 17] فأما شرع الدين فهو وضعه وإنزاله من عند الله تعالى، وليس لغيره أن يشرع. فآيتا الشورى تدلان على أن وضع الله تعالى للدين ومخاطبة الناس به يسمى شرعا بالمعنى المصدري، وليس مما نحن فيه.

وأما آية الجاثية فقد روى ابن جرير عن قتادة أنه قال فيها: الشريعة الفرائض والحدود والأمر والنهي. وهو نص فيما ذكرنا من قصر الشريعة على الأحكام العلمية دون العقائد والحكم والعبر التي يشتملها الدين. والمشهور في عرف فقهائنا وعامتنا أن الدين والشرع أو الشريعة بمعنى واحد. ولكن مع ذلك ترى استعمال: علم الشرع، وعلماء الشريعة – وكتب الشريعة، ألصق بالفقه وكتبه وعلمائه منها بعلم العقائد والأخلاق وعلمائها وكتبها، وتجد الفقهاء يقولون: يجوز هذا ديانة لا قضاء. ونحو ذلك. وتحرير القول أن الشريعة اسم للأحكام العملية وأنه أخص من كلمة (الدين) وإنما تدخل في مسمى الدين من حيث إن العامل بها يدين الله تعالى بعمله ويخضع له ويتوجه إليه مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.

والآية نص في أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا مطلقا، سواء كانت اللام في قوله: {لكل جعلنا} للاختصار الحصري أم لا، خلافا لمن قال به محتجين بقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك} [الشورى: 13] الآية. وقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] الآية، وما في معناها. فأما الآية الأولى فقد بين ما شرعه تعالى فيها من التوصية وهو قوله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] فهذه وصية الله إلى الأمم على ألسنة جميع الرسل، فهي لا تدل على اتحاد شرائعهم بل على حظر الاختلاف في الدين، لأن الدين نزل لإزالة الخلاف الضار وإصلاح الأمة، فالاختلاف فيه يجعل الإصلاح إفسادا، والدواء داء. ولذلك قال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] وقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105] ولو كانت الآية عامة في الدين والشريعة لكان معناها أننا مخاطبون بالأحكام العملية التي شرعها الله لقوم نوح والنبيين من بعده، ولم يكن معناها أننا مخاطبون بالأحكام العملية التي شرعها الله لقوم نوح ومن بعده. وكون ما شرعه لنا هو عين ما شرعه لهم مناقض لقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وكيف يتصور عاقل أن يكون المراد من الآية أن كل ما شرعه الله لقوم نوح هو شرع لنا إذا لم يرد في شريعتنا ما ينسخه؟ وهو خبر لا فائدة فيه، إذ لا علم لنا بما شرعه تعالى لقوم نوح، وكلام الله منزه عن العبث؟

وأما قوله تعالى في سورة الأنعام {فبهداهم اقتده} فقد جاء بعد ذكر هدايته تعالى لطائفة من الأنبياء والمرسلين، فلا يمكن أن يراد به العمل بشرائعهم العملية، لعدم إعلامه تعالى بها، وعدم الثقة بإعلام غيره – إن وجد – ولاختلافها ونسخ بعضها بعضا. قال بعض المحققين: ولا يجوز أيضا أن يراد بذلك الاقتداء بهم في العقائد وأصول الدين، لأن الاقتداء تقليد، والعقائد لا تصح إلا بالعلم اليقيني بالبرهان العقلي أو السمعي، وقد أبطل الله التقليد في كتابه فلا يقبله من آحاد الناس، فكيف يأمر به خاتم المرسلين، الذي هو مقام حق اليقين؟ ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول هذه الآية كان عالما بالعقائد داعيا إليها، ولا معنى لأن يكون أمره بالاقتداء أمرا بالثبات عليها. والصواب أن المراد بالاقتداء هنا موافقة سنتهم وسيرتهم في دعوة أقوامهم إلى الدين والصبر على أذاهم، ونحو ذلك من خلائقهم الحسنة التي بينها الله تعالى في سيرتهم كما قال {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود:120 [وقال تعالى: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} [الأحقاف:35] أي ولا تستعجل لقومك العذاب كما استعجل بعضهم. ولو دلت هذه الآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا لدل عليها قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة:1} أيضا، ولكنا مأمورين بأن نتبع من دون النبيين، من الصديقين والشهداء والصالحين، في جمع أحكام شرائعهم، وجزئيات أعمالهم. كلا إن المراد بالهداية في هذا الباب هداية القلوب بما وفقها الله له من الإخلاص ونور البصيرة، وحب الحق والخير وتحريهما في العلم والعمل، والوقوف عند حدود الله تعالى. فهم بهذا كانوا مهتدين، وهذا هداهم وصراطهم، لا أحكام الشرائع التي خوطب بها من عمل بها ومن لم يعمل.

لعمري إن الحق في هذه المسألة واضح كالصبح بل هو أوضح. ولكن أكثر المصنفين المقلدين جروا على سنة سيئة. وهي أن يأخذوا أقوال العلماء الذين ينتسبون إليهم قضايا مسلمة، ويلتمسون الدلائل لإثباتها وإبطال ما خالفها دليلا ومدلولا ولو بالتمحل والتأول والاحتمال، فالأدلة عندهم تابعة لا متبوعة، فما وافق الأصل المسلم عندهم ولو بادي الرأي قبلوه، وما خالفه وأبطله أعرضوا عنه وتركوه، أو حرفوه وتأولوه، وإلا فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الله قد أكمل الدين بديننا، وختم النبيين بنبينا، وأرسله للناس كافة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وأن جميع الشرائع قبله كانت مؤقتة، وشريعته هي الشريعة الدائمة وحكمة ذلك معروفة بين العلماء لم تكن تحل محل خلاف بين المذاهب ولا بين الأفراد، وهي أن هذه الشريعة الكاملة السمحة صالحة لكل زمان وكل مكان، وحكمة نسخ الشرائع الماضية عدم صلاحيتها لغير أهلها، وعدم صلاحيتها للدوام في أهلها.

ويؤيد هذا جملة ما في الأيدي من التوراة والإنجيل، فكل من اطلع عليهما، يعلم علم اليقين أنه لا طاقة للبشر في هذا العصر بإقامتهما. فشدة أحكام التوراة في العبادات وأحكام المعاملات المدنية والقتال لا يمكن أن تعمل به أمة. وشدة أحكام الإنجيل في الزهد وترك الدنيا، والخضوع لكل حاكم وكل معتد، لا يمكن أن تكون عليه أمة – فإذا كان الأمر كذلك فهل يعقل أن تكون تلك الشرائع الخاصة الموقوتة – التي نسختها شريعتنا لإكمال الدين بما يناسب ارتقاء البشر – شريعة دائمة لنا يجب علينا العمل بها، وأن يعد هذا أصلا من أصولنا؟؟ يا ضيعة الوقت الذي نصرفه في رد هذا القول، بل يا ضيعة الحبر والورق الذي يصرف في سبيله، لولا أنه صار ضروريا بتلك الشبهات التي فتن بها كثير من الأذكياء كالسعد التفتازاني وأضرابه.

وجملة القول أن دين الله تعالى على ألسنة أنبيائه واحد في أصوله ومقاصده، وهي توحيد الله تعالى وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له، والإخلاص له في الأعمال، والإيمان باليوم الآخر، والاستعداد له بالعمل الصالح، وأما الشرائع فهي مختلفة. وشرع ما قبلنا ليس شرعا لنا، وموافقته لبعض الشرائع في بعض الأحكام كموافقته لبعض القوانين الوضعية، في كونها لا يصح أن تكون سببا لشرعها لنا، كما لا يصح أن تكون مانعا – فإنما كنا مخاطبين بهذه الأحكام بنزولها علينا، لا بكونها شرعت لمن قبلنا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب مخالفة اليهود – بعد نزول الكثير من الأحكام الشرعية عليه في المدينة – حتى في عمل البر الداخل في عموم شريعتنا وشريعتهم كصيام يوم عاشوراء إذ كان يصومه فلما قيل له في المدينة: أن أهل الكتاب يعظمونه – أو يصومونه – قال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) (1) رواه مسلم. وإنما روي أنه كان يحب موافقتهم اجتهادا قبل نزول الأحكام التفصيلية في مكة. وما قال من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا إلا لعدم التفرقة بين أصل الدين والملة وبين الشريعة، لأن الجمهور يستعملون هذه الألفاظ استعمال المترادفات، والتحقيق الفرق – كما قال قتادة – وعرفت تفصيله.

يدل على ذلك ما ورد في (ملة إبراهيم) فإن الله سمى الإسلام ملة إبراهيم وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة إبراهيم، وامتن على العرب بأنه أمرهم بملة أبيهم إبراهيم، قال تعالى: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (آل عمران: 95) وقال: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النساء: 124) وقال: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 161 – 164) فهذا هو الإسلام وهو بيان لملة إبراهيم. يؤيد ذلك قوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة من الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (النحل: 120 – 123)، فهذه هي ملة إبراهيم الحنيفية السمحة التي كان عليها سائر الأنبياء من ذريته – ومن قبله أيضا – يؤيده قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قد أسلمت لرب العالمين ووصى إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ام كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه: ما ذا تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} (البقرة: 130) يؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن يوسف: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} [يوسف: 37]. فهذه الآيات يصدق بعضها بعضا ويؤيده، وكلها برهان على ما حققناه.

وأما قوله تعالى في آخر سورة الحج: {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78] فالظاهر أن قوله فيه (ملة إبراهيم)، منصوب على الاختصاص، أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم، وهي التوحيد الخالص لله الذي هو معنى الإسلام. وعلم منه أن لفظ الملة يراد به أصل الدين وجوهره دون ما يتبع ذلك من الشرائع وتفاصيل الأحكام. ومنه قول العلماء: الكفر ملة واحدة. مع الجزم بأن شرائع الكفار مختلفة ومتعددة.

قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أيها الناس أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد في سلوكها والعمل بها لفعل، بأن خلقكم على استعداد واحد، وألزمكم حالة واحدة في أخلاقكم وأطوال معيشتكم، بحيث تصلح لها شريعة واحدة في كل زمن. وحينئذ تكونون كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير أو النمل أو النحل.

{وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} أي ولكن لم يشأ ذلك بل جعلكم نوعا ممتازا يرتقي في أطوار الحياة بالتدرج وعلى سنة الارتقاء، فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته، في جميع أقوامه وجماعاته، وآتاكم من الشرائع والمناهج في الفهم والهداية في طور النوع وغلبة المادية عليه ما يصلح له – وفي طور تمييزه وغلبة الوجدانات النفسية عليه ما يصلح له – حتى إذا ما بلغ النوع سن الرشد ومستوى استقلال العقل، بظهور ذلك في بعض الأقوام بالقوة وفي بعضها بالفعل، ختم له الشرائع والمناهج بالشريعة المحمدية المبنية على أصل الاجتهاد، وجعل أمره في القضاء والسياسة والاجتماع، شورى بين أولي الأمر، من أهل المكانة والعلم والرأي – (ليبلوكم) أي ليعاملكم بذلك معاملة المختبر لاستعدادكم (فيما آتاكم) أي أعطاكم من الشرائع والمناهج، فتظهر حكمته في تمييزكم على غيركم، من أنواع الخلق في أرضكم، وهو كونكم جامعين بين الحيوانية والملكية.

يظهر مثال ما حققناه في الشرائع والمناهج الأخيرة – اليهودية والنصرانية والإسلامية – فاليهودية شريعة مبنية على الشدة في تربية قوم ألفوا العبودية والذل، وفقدوا الاستقلال في الإرادة والرأي، فهي مادية جسدية شديدة ليس لأهلها فيها رأي ولا اجتهاد، فالقائم بتنفيذها كالمربي للطفل العارم الشكس. والمسيحية يهودية من جهة وروحانية شديدة من جهة أخرى، فهي تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم الجسدية والاجتماعية للمتغلبين من أهل السلطة والحكم، مهما كانوا عليه من الفساد والظلم، وأن يقبلوا كل ما يسامون به من الخسف والذل، ويجعلوا عنايتهم كلها بالأمور الروحية، وتربية العواطف والوجدانات النفسية، فهي تربية للنوع في طور التمييز عندما كان كالغلام اليافع الذي تؤثر في نفسه الخطابيات والشعريات.

وأما الإسلامية فهي القائمة على أساس العقل والاستقلال، والمحققة لمعنى الإنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد، وبهذا بصدق عليها قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143] وقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] فهي مبنية على أساس الاستقلال البشري اللائق بسن الرشد، وطور ارتقاء العقل، ولذلك كانت الأحكام الدنيوية في كتابها قليلة، وفرض فيها الاجتهاد، لأن الراشد يفوض إليه أمر نفسه فلا يقيد إلا بما يمكن أن يعقله من أصول القطعية، ومن مقومات أمته الملية، التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومن أحب زيادة التفصيل في هذا البحث فليرجع إلى تفسير قوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين} [البقرة:213] – الآية (ج 2 تفسير) وتفسير {لولا أن يكون الناس أمة واحدة} [الزخرف: 33] في م 15 من المنار، إلى فصل (الدين الإسلامي أو الإسلام) من رسالة التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام.

ومن فقه ما حققناه علم أن حجة الله تعالى بإكمال الدين بالقرآن وختمه النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل شريعته عامة دائمة – لا تظهر إلا ببناء هذا الدين على أساس العقل، وبناء هذه الشريعة على أساس الاجتهاد وطاعة أولي الأمر، الذين هم جماعة أهل الحل والعقد. فمن منع الاجتهاد فقد منع حجة الله تعالى وأبطل مزية هذه الشريعة على غيرها، وجعلها غير صالحة لكل الناس في كل زمان، فما أشد جناية هؤلاء الجهال على الإسلام، على أنهم يسمون علماء الإسلام.

{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فإذا كان الأمر كذلك فالواجب عليكم جميعا أن تبتدروا الخيرات وتسارعوا إليها، لأنها هي المقصودة بالذات من جميع الشرائع ومناهج الدين، فما بالكم أيها الناس تنظرون من الدين والشرع إلى ما به الخلاف والتفرق، دون حكمة الخلاف ومقصد الدين والشرع، أليس هذا هو ترك الهدى، واتباع سبل الهوى؟ فاستباق الخيرات هو الذي ينفع في الدنيا والآخرة، وإلى الله – دون غيره – ترجعون جميعا في الحياة الثانية، فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه، ويجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. فعليكم أن تجعلوا الشرائع سببا للتنافس في الخيرات، لا سببا للعداوة بتنافس العصبيات.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ} الذي هو القرآن العظيم، أفضل الكتب وأجلها. {بِالْحَقِّ ْ} أي: إنزالا بالحق، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه. {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ْ} لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقا لخبرها. {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ْ} أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة؛ وإلى الشريعة الأخيرة.. إنها الرسالة التي جاءت تعرض "الإسلام "في صورته النهائية الأخيرة؛ ليكون دين البشرية كلها؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا؛ ولتهيمن على كل ما كان قبلها وتكون هي المرجع النهائي؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي، وآداب سلوكها الفردي والجماعي.. وقد جاءت كذلك ليحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر! وقد جاءت لتتبع بكل دقة، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة.. فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى. ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة. إنما يريد الله أن تحكم شريعته، ثم يكون من أمر الناس ما يكون:

(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم. واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون)..

ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء -ولو قليل- من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف..

يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم -يدعي الإسلام- أن يترك شريعة الله كلها، بدعوى الملابسات والظروف! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم "مسلمين "؟! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة الله كلها؛ ويرفضون الإقرار له بالألوهيه، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف!

(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق)..

يتمثل الحق في صدوره من جهى الألوهية، وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين.. ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خير، وما يحمله من توجيه.

(مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه)..

فهو الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل.

ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه. سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة. أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب.

ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير.

وتترتب على هذه الحقيقة مقتضياتها المباشرة:

(فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)..

والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبحثون إليه متحاكمين. ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب، بل هو عام.. وإلى آخر الزمان.. طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رساله جديده، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير!

لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين. ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين. ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى. وقد علم الله حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعاً. وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً. وأنه يسع حياة الناس جميعاً، الى يوم الدين. وأي تعديل في هذا المنهج -ودعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة. يخرج صاحبه من هذا الدين. ولو قال باللسان ألف مره: إنه من المسلمين!

وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين.. وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه، في بعض الملابسات والظروف. فحذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه..

وأولى هذه الهواجس: الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد. ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة!

وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم. وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض.. ولكن الأمر -كما هو ظاهر- أعم من حالة بعينها وعرض بعينه. فهو أمر يعرض في مناسبات شتى، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين.. وقد شاء الله -سبحانه- أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء. فقال لنبيه: إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا. وأن كلا منهم يسلك طريقه؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق.. وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج.. فهم لا يتجمعون: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

بذلك أغلق الله -سبحانه- مداخل الشيطان كلها؛ وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف!

إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق. ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين. وقد عرض الله عليهم الهدى؛ وتركهم يستبقون. وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون؛

وإنها لتعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها. فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.. وهو شر عظيم وفساد عظيم.. لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع، والاتجاهات والمشارب.. وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير. وإليه المرجع والمصير..

إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله، لمثل هذا الغرض، تبدو -في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية- محاولة سخيفة؛ لا مبرر لها من الواقع؛ ولا سند لها من إرادة الله؛ ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم" مسلمين "يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر" السائحين "؟!!! أي والله هكذا يقولون!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

.. وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيّد لبعض ما في الشّرائع مُقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مُصَدّق، أي مُحقّق ومقرّر، وهو أيضاً مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة.

وقوله: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} أي بما أنزل الله إليك في القرآن، أو بما أوحاه إليك، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه اللّهُ بحكم جديد، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لِمَنْ قبلنا.

.. والنّهي عن اتّباع أهوائهم، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يَحكم عليهم بما تَقَرّر من عوائِدهم، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة، لأنّ نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه، ونزولَه مصدّقاً أيَّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه.

والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله، فالمقصود من هذا النّهي: إمَّا إعلان ذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تتّبع أهواءهم} [المائدة: 49] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس، مثل قوله تعالى: {لئنْ أشركت ليحبَطنّ عملك} [الزمر: 65]. وإمَّا تبيين الله لرسوله وجهَ ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرُقاً للترجيح، وذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لشدّة رغبته في هُدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم، لأنّهم وعَدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به. فقد يقال: إنّهم لمّا تراضَوا عليه لِم لا يُحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في الإسلام، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه، قال تعالى: {يمُنّون عليكَ أنْ أسلموا قل لا تُمُنّوا عليّ إسلامَكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17].

.. وقوله: {لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} كالتعليل للنّهي، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسَّكوا بشرعكم..

والشرعة والشريعة: الماء الكثير من نهر أو واد. يقال: شريعة الفرات. وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها. والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيراً.

.. فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود. وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرْق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم.

.. وقوله: ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة}. الجعل: التقدير، وإلاّ فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام، ولكنّه رتّب نواميس وجبلاّت، وسبَّب اهتداء فريق وضلال فريق، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان، والميلِ أو الانصرافِ، والعزم أو المكابرة. ولا عذر لأحد في ذلك، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات.

والأمّة: الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة. وأصل الأمّة في كلام العرب: القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها.

ومعنى {ليبلوكم فيما آتاكم} هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه. والبلاء: الخبرة. والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس، والمرادُ لازم المعنى على طريق الكناية.

... ومعناه أنّ الله وَكَل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابَق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علماً وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح. وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد، وذلك من الاختبار. ولذلك قال {ليبلوكم فيما آتاكم}، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر. فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يَبلغ بعضُها درجات عالية، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدارُ عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل.

وفرّع على {ليبلوكم} قوله: {فاستبقوا الخيرات} لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضَح وأجلى.

والاستباق: التسابق، وهو هنا مجاز في المنافسة، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر، فشابه التّسابق. ولتضمين فعل {استبقوا} بمعنى خذوا، أو ابتدروا، عدّي الفعل إلى {الخيرات} بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى، كقوله {سَابقوا إلى مغفرة من ربّكم} [الحديد: 21]. وقوله: {فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي من الاختلاف في قبول الدّين...