فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( 48 ) }

{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن والتعريف للعهد والتعريف في الكتاب الثاني للجنس أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبسا بالحق ، وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزلة لكونه مشتملا على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر ، كما اشتملت عليه .

وأما ما يتراءى من مخالفته في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار ، فليس بمخالفة في الحقيقة ، بل هي موافقة لها من حيث أن كلا من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره ، تضمن للحكمة التي يدور عليها أمر الشريعة ، وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر ، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق بنسخها وزوالها .

{ ومهيمنا عليه } الضمير عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه ، والمهين الرقيب ، وقيل الغالب المرتفع ، وقيل الشاهد ، وقيل الحافظ ، وقيل المؤتمن .

قل المبرد : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي ، قال الجوهري : هو من آمن غيره من الخوف . وأصله أأمن فهو مأأمن ، يقال هيمن إذا كان له حافظا فهو له مهيمن ، كذا عن أبي عبيد .

وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمنا بفتح الميم أي هيمن عليه الله سبحانه ، والمعنى على قراءة الجمهور أن القرآن صار شاهدا بصحة الكتب المنزلة ومقررا لما فيها مما لم ينسخ ، وناسخا لما خالفه منها ، ورقيبا عليها وحافظا لما فيها من أصول الشرائع ، وغالبا لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ ، ومؤتمنا عليها لكونه مشتملا على ما هو معمول به منها وما هو متروك .

{ فاحكم ينهم } أي بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك ، وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم { بما أنزل الله } أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه ، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم .

{ ولا تتبع أهوائهم } أي أهواء أهل الملة السابقة ، وقال ابن عباس : لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن { عما جاءك من الحق } أي لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم أو لا تتبع أهوائهم عادلا أو منحرفا عن الحق .

وفيه النهي له صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه ، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلا منسوخا أو محرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء كما وقع في الرجم وغيره مما حرفوه من كتب الله ، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبع أهوائهم .

{ لكل جعلنا منكم } الخطاب للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليهم أجمعين ، أو للناس كافة لكن للموجودين خاصة بل للماضين أيضا بطريق التغليب على وجه التلوين والالتفات .

{ شرعة ومنهاجا } الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين ، والمنهاج الطريقة الواضحة البينة ، وقال محمد بن يزيد المبرد الشريعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر .

ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها ، والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله ، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن ، وأما بعد فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس في الآية : سنة وسبيلا ، وقال قتادة سبيلا وسنة ، وقد وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء وعلى حصول التباين بينهم ، والجمع بينهما أن الأولى في أصول الدين ، والثانية في فروعه وما يتعلق بظاهر العبادات والله أعلم .

{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل { ولكن ليبلوكم } أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع فيكون ليبلوكم متعلقا بمحذوف دل عليه سياق الكلام .

{ فيما آتاكم } أي فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل هل تعملون بذلك وتذعنون له أو تتركوه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته ، وتميلون إلى الهوى ، وتشترون الضلالة بالهدى وفيه دليل على اختلاف الشرائع هو لهذه العلة ، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص .

{ فاستبقوا الخيرات } أي إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمركم بفعله وترك ما أمركم بتركه أي فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم والاستباق المسارعة .

{ إلى الله } لا إلى غيره { مرجعكم جميعا } وهذه الجملة كالعلة لما قبلها . { فينبئكم بما كنتم تختلفون } من أمر الدين والدنيا فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب .