قوله تعالى : { بِالْحَقِّ } : الباء يجوزُ أن تكونَ للحال من " الكتاب " أي : ملتبساً بالحق والصدق ، وهي حالٌ مؤكدة ، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل أي : مصاحبِين للحق ، أو حالاً من الكاف في " إليك " أي : وأنت ملتبسٌ بالحق . و " من الكتاب " تقدَّم نظيرُه . و " أل " في الكتاب الأول للعهدِ وهو القرآنُ بلا خلافٍ ، وفي الثاني : يُحْتمل أن تكونَ للجنس ، إذ المرادُ الكتبُ السماوية . وجَوَّز الشيخ أن تكونَ للعهد ؛ إذ المراد نوعٌ معلومٌ من الكتاب ، لا كلُّ ما يقع عليه هذا الاسمُ ، والفرق بين الوجهين أنَّ الأولَ يحتاج إلى حذف صفة أي : الكتاب الإِلهي ، وفي الثاني لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنَّ العهدَ في الاسم يتضَّمنه بجميعِ صفاته .
قوله : { وَمُهَيْمِناً } الجمهورُ على كسر الميم الثانية ، اسمَ فاعل وهو حال من " الكتاب " الأول لعطفِه على الحال منه وهي " مصدقاً " ، ويجوز في " مصدقاً " و " مهيمناً " أن يكونا حالين من كافِ " إليك " وسيأتي تحقيقُ ذلك عند ذِكْرِ قراءةِ مجاهد رحمه الله . و " عليه " متعلق " بمهيمِن " والمهيمِن : الرقيب : قال :
إنَّ الكتابَ مهيمِنٌ لنبيِّنا *** والحقُّ يعرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ
مليكٌ على عرشِ السماء مهيمِنٌ *** لعزته تَعْنُو الوجوهُ وتَسْجُدُ
وهو الشاهد أيضاً . واختلفوا فيه : هل هو أصلٌ بنفسه أي : ليس مبدلاً من شيء ، يقال : هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمِن ، كبَيْطَر يُبَيْطِر فهو مُبَيْطر قال أبو عبيدة : " لم يَجِيءْ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعةُ ألفاظ : " مبيطِر ومُسَيْطر ومُهَيْمِن ومُحَيْمِر " وزاد أبو القاسم الزجاجي في شَرْحه لخطبة " أدب الكاتب " لفظاً خامساً وهو : " مُبَيْقِر ، اسمَ فاعل مِنْ بَيْقَر يُبَيْقِرُ أي خَرَج من أفق إلى أفق ، أو البُقَّيْرى وهي لعبةٌ معروفة للصبيان ، وقيل : إنَّ هاء مبدلة من همزة وأنه اسمُ فاعل من آمنَ غيرَه من الخوفِ ، والأصلُ : " مُأَأْمِن " بهمزتين / أُبْدِلت الثانيةُ ياءً كراهيةَ اجتماعِ همزتين ثم أُبْدلت الأولى هاءً ك هراق وهَراح وهَبَرْتُ الثوب في : أراق وأراح وأَبَرْت الثوب ، وهذا ضعيفٌ أو فيه تكلفٌ لا حاجةَ إليه ، مع أنَّ له أبنيةً يمكنُ إلحاقه بها كمُبَيْطِر وإخوانِه ، وأيضاً فإن همزة " مُأَأْمِن " اسمَ فاعل من " آمن " قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أُثْبِتَتْ ثم أُبْدِلَت هاءً ، هذا ما لا نظير له . وقد سقطَ ابنُ قتيبة سقطةً فاحشة حيث زعم أن " مُهَيْمِناً " مصغرٌ ، وأن أصله " مُؤَيْمِن " تصغيرُ " مُؤْمن " اسمَ فاعل ، ثم قُلبت همزتُه هاء كهَراق ، ويُعْزى ذلك لأبي العباس المبرد أيضاً .
إلاَّ أنَّ الزجاج قال : " وهذا حسنٌ على طريقِ العربية ، وهو موافقٌ لِما جاء في التفسير من أنَّ معنى مُهَيْمن : مُؤْمن " وهذا الذي قال الزجاج [ واستحسنه أنكره الناسُ عليه وعلى المبرد ومَنْ تَبِعَهما ] ، ولما بلغ أبا العباس ثعلباً هذا القولُ أنكره أشدَّ إنكار وأنحى على ابن قتيبة وكتب إليه : أَنِ اتقِ الله فإن هذا كفرٌ أوما أشبهه ، لأن أسماء الله تعالى لا تُصَغَّر وكذلك كل اسمٍ معظَّم شرعاً . وقال ابن عطية : " إن النقاش حَكَى أنَّ ذلك لَمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما قاله ابنُ قتيبة رديءٌ باطل ، والوثوبُ على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف ، وإنما جمع الكتب من هَوَسٍ غلبه " [ وقال أبو البقاء : " وأصل مُهَيْمن : مُؤْيْمِن لأنه مشتق من الأمانة لأن المهيمنَ الشاهدُ ، وليس في الكلام " هَيْمن " حتى تكون الهاء أصلاً " وهذا الذي قاله لي بشيء لِما تقدم من حكايةِ أهلا للغة هَيْمَن ] وغايةُ ما في الباب أنهم لم يَسْتعملوه إلا مزيداً فيه الياءُ كبَيْطر وبابِه .
وقرأ ابن محيصن ومجاهد : " ومُهَيْمَنا " بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير ، والفاعل هو الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] أو لحافظ له في كل بلد ، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على قارئِها بالصواب ، والضمير في " عليه " على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول ، وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني . وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : " معناه : محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن " قال الطبري : " فعلى هذا يكون " مهيمناً " حالاً من الكاف في " إليك " وطَعَن على هذا القول لوجود الواو في " ومهيمنا " لأنها عطف على " مصدقاً " و " مصدقاً " حال من الكتاب لا حال من الكاف ؛ إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب : " لما بين يديك " بالكاف .
قال الشيخ : " وتأويلُه على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ عن نظم القرآن ، وتقديره : " وجعلناك يا محمد مهيمناً " أبعدُ " يعني أن هذين التأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد ، لكن الأول بعيدٌ والثاني أبعدُ منه . وقال ابن عطية هنا بعد أن حكى قراءةَ مجاهد وتفسيرَه محمداً عليه السلام أنه أمين على القرآن : " قال الطبري : وقولُه ومهيمناً على هذا حالٌ من الكاف في قوله " إليك " قال : وهذا تأويلٌ بعيدٌ من المفهوم " قال : " وغَلِط الطبري في هذه اللفظةِ على مجاهد ، فإنه فَسَّر تأويلَه على قراءة الناس : " مهيمناً " بكسر الميم الثانية فَبَعُدَ التأويل ، ومجاهد - رحمة الله - إنما يقرأ هو وابن محيصن : " ومهيمَنا " بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول ، وهو حالٌ من الكتاب معطوف على قوله : " مصدقاً " وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد عليه السلام .
قال : و " كذلك مشى مكي رحمه الله " قلت : وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يَرُدُّ على الطبري ، فإنَّ الطبري استشكل كونَ " مهيمنا " حالاً من الكاف على قراءة مجاهد ، وأيضاً فقد قال ابن عطية بعد ذلك : " ويحتمل أن يكون " مصدقاً ومهيمناً " حالَيْن من الكاف في " إليك " ، ولا يَخُصُّ ذلك قراءةَ مجاهد وحده كما زعم مكي ، فالناس إنما استشكلوا كونَهما حالين من كاف " إليك " لقلق التركيب ، وقد تقدَّم ما فيه وما نقله الشيخُ من التأويلين ، وقوله : " لا يخص ذلك " كلامٌ صحيح ، وإنْ كان مكي التزمه وهو الظاهر .
و " عليه " في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامِه مقامَ الفاعل ، كذا قال ابن عَطية ، قلت : هذا إذا جعلنا " مهيمناً " حالاً من الكتاب ، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف " إليك " فيكونُ القائمُ مقامَ الفاعلِ ضميراً مستتراً يعودُ على النبي عليه السلامِ ، فيكون " عليه " أيضاً في محلِّ نصبٍ كما لو قُرِئ به اسمَ فاعل . قوله : { عَمَّا جَآءَكَ } فيه وجهان ، أحدهما : - وبه قال أبو البقاء - أنه حال أي : عادلاً عما جاءك ، هذا فيه نظرٌ من حيث إنَّ " عن " حرفُ جر ناقص لا يقع خبراً عن الجثة ، فكذا لا يقع حالاً عنها ، وحرفُ الجر الناقص إنما يتعلق بكون مطلق لا بكونٍ مقيدٍ ، لكنَّ المقيدَ لا يجوز حَذْفُه . والثاني : أنَّ " عَنْ " على بابها من المجاوزة ، لكن بتضمين " تَتَّبعْ " معنى " تتزَحْزَحْ وتنحرف " أي : لا تحرف متبعاً .
قوله : { مِنَ الْحَقِّ } فيه أيضاً وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في " جاءك " والثاني : أنه حالٌ من نفس " ما " الموصولة ، فيتعلق بمحذوفٍ ، ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ . قوله : " لكل " " كل " مضافة لشيء محذوف ، وذلك المحذوفُ يُحتمل أن يكونَ لفظة " أمة " أي : لكل أمة ، ويراد بهم جميعُ الناس من المسلمين واليهود والنصارى ، ويحتمل أن يكونَ ذلك المحذوفُ " الأنبياء " أي : لكل الأنبياء المقدَّمِ ذكرُهم . و " جَعَلْنا " يُحتمل أن تكونَ متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّرْنا ، فيكون " لكل " مفعولاً مقدماً ، و " شِرْعة " مفعولٌ ثان . وقوله : { منكم } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : أعني منكم ، ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل " كل " لوجهين ، أحدُهما : أنه يلزمُ منه الفصلُ بين الصفة والموصوف بقوله " جَعَلْنا " وهي جملةٌ أجنبية ليس فيها تأكيدٌ ولا تسديدٌ ، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصلُ به .
والثاني : أنه يلزم منه الفصلُ بين " جَعَلْنا " وبين معمولِها وهو " شِرْعةً " قاله أبو البقاء وفيه نظر ، فإن العامل في " لكل " غيرُ أجنبي ، ويدل على ذلك قوله :
{ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } [ الأنعام : 14 ] ففصل بين الجلالة وصفتِها بالعمل في المفعول الأول ، وهذا نظيره . وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : " شَرْعة " بفتح الشين ، كأن المكسور للهيئة والمفتوح مصدر .
والشِرْعة في الأصل : السُّنَّةُ ، ومنه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ } [ الشورى : 13 ] أي : سَنَّ والشارع : الطريق ، وهو من الشريعةِ التي هي في الأصل الطريقُ المُوصِلُ إلى الماء ، ومنه قوله :
وفي الشرائعِ منْ جِلاَّنَ مُقْتَنِصٌ *** بالي الثيابِ خَفيُّ الصوتِ مُنْزَرِبُ
والمِنْهاج : مشتق من الطريق النَّهْج وهو الواضح ، ومنه قولُه
مَنْ يَكُ ذا شَكٍّ فهذا فَلْجُ *** ماءٌ رُواءٌ وطريقٌ نَهْجُ
أي : واضحٌ ، يُقال : طريق مَنْهَجٌ ونَهْجٌ . وقال ابن عطية : " مِنْهاج مثالُ مبالغةٍ من نَهَج " يعني نحو قولهم : " إنه لمِنْحار بوائكَها " / وهو حسن ، وهل الشرعةُ والمنهاجُ بمعنى ، كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وهند أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
أو مختلفان ؟ فالشِّرْعة ابتداءُ الطريق ، والمِنْهاج الطريق المستمر ، قاله المبرد ، أو الشِرْعَةُ الطريقُ واضحاً كان أو غيرَ واضح ، والمنهاج الطريق الواضح فقط ، فالأول أعمُّ ، قاله ابن الأنباري ، أو الدين والدليل ؟ خلاف مشهور .
قوله : { وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ } متعلقٌ بمحذوف فقدَّره أبو البقاء " ولكنْ فَرَّقكم ليبلوكَم " وقدَّره غيرُه : " ولكن لم يَشَأْ جَعْلَكم أمةً واحدة " وهذا أحسنُ لدلالة اللفظ والمعنى عليه . و " جميعاً " حال من " كم " في " مرجعكم " ، والعاملُ في هذه الحال : إمَّا المصدرُ المضافُ إلى " كم " فإنَّ " كم " يحتمل أَنْ يكونَ فاعلاً ، والمصدرُ يَنْحَلُّ لحرف مصدري وفعل مبنيٍ للفاعل ، والأصلُ : " تَرْجعون جميعاً " ويحتمل أن يكونَ معفولاً لم يُسَمَّ فاعله على أن المصدر ينحلُّ لفعل مبني للمفعول أي : يُرْجِعُكم الله ، وقد صُرِّح بالمعنيين في مواضع ، وإمَّا أن يعملَ فيها الاستقرارُ المقدرفي الجار وهو " إليه " ، و " إليه مَرْجِعُكم " يُحتمل أن يكونَ من بابِ الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية ، وهذا واضحٌ بما تقدَّم في نظائره ، و " فَيُنَبِّئُكم " هنا من " نَبَّا " غيرَ متضمنةٍ معنى " أعلم " فلذلك تَعَدَّت لواحدٍ بنفسها وللآخر بحرف الجر .