تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

المفردات :

مهينا عليه : مسيطرا .

شرعة : شريعة .

ومنهاجا : طريقا واضحا في تطبيق هذه الشريعة .

ليبلوكم : ليختبركم .

فاستبقوا الخيرات : أي : فليستبق كل منهم الآخر إلى فعل الخيرات .

التفسير :

48- وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ . . . الآية .

المراد بالكتاب الأول : القرآن ، وأل فيه للعهد ، والمراد بالكتاب الثاني : جنس الكتب السماوية فيشمل التوراة والإنجيل .

وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ . أي : رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية وأمينا وحاكما عليها ؛

لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها .

والمعنى :

لقد أنزلنا التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وجعلناه مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ . أي : مؤيدا لما في هذه الكتب التي تقدمته من دعوة إلى عبادة الله وحده ، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق وجعلناه كذلك وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ . أي : أمينا ورقيبا وحاكما على كل كتاب سبقه .

قال ابن كثير :

جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ؛ لأنه سبحانه جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل سبحانه بحفظه بنفسه فقال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . ( الحجر : 9 )

فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ . أي : فاحكم بين أهل الكتاب بالحق الذي أنزل إليك في كتابه الكريم ؛ فإنه المرجع السماوي الصحيح ، المحفوظ من التحريف ، وكل ما لا يتوافقه في التوراة والإنجيل منسوخ يحرم العمل به .

وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ . أي : أهواء أهل الملل السابقة ، ولا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق . أي : الحق الذي أنزل الله عليك ، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر علة ما هم عليه ، وما أدركوا عليه سلفهم ، وإن كان باطلا منسوخا أو منحرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء ، كما أرادوا في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله {[258]} .

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً . أي : لكل أمة منكم با نبي آدم جعلنا شريعة تناسب أحوالها وزمانها ومنهاجا . أي : طريقا واضحا تسير عليه في تنفيذ أحكام شريعتهم . فقد جعل الله التوراة لأهلها ، والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله . وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن ، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {[259]} .

وقال ابن كثير :

هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان ، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد " {[260]} .

أي : في التوحيد الذي أرسل به كل رسول أرسله ، وضمنه كل كتاب أنزله .

قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ . ( الأنبياء : 25 )

وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . بشريعة واحدة ، وكتاب واحد ورسول واحد .

وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم . أي : ولكن أنزل إليكم شرائع ومناهج مختلفة ؛ ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من الشرائع ومدى امتثالكم لأحكامها ، هل تعملون بها مذعنين لها ، معتقدين أن في اختلافها نفعا لكم في معاشكم ومعادكم ؟ وهل تستجيبون لدعوة خاتم أنبيائه : الذي جاءكم بالشريعة التي ختمت بها الشرائع ، لتكون شريعة الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ . أي : فليسبق كل منهم غيره فعل الخيرات .

قال الشوكاني : أي : فسابقوا أيها المسلمون غيركم من أصحاب الشرائع الذين عملوا على أساسها بطاعة الل ، ه واعملوا بطاعة الله على أساس شريعتكم .

قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :

" لو شاء الله تعالى أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة واحدة لفعل ؛ لأنه سبحانه لا يعجزه شيء ، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك ، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ؛ ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصلها فيجازي من أطاعه بما يستحقه من ثواب ؛ ويجازي من خالف أمره بما يستحقه من عذاب .

وإذا كان الأمر كما وصفت لكم ؛ فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة وتنافسوا في عمل الخيرات بكل عزيمة ونشاط . اه .

إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . أي : إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم فيخبركم عند الحساب ؛ بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا ، ويجازيكم بما تستحقون ، ويفصل بين المحق منكم والمبطل ، والعامل والمفرط .


[258]:فتح القدير للشوكاني.
[259]:فتح القدير للشوكاني.
[260]:أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم: تقدم 96.