قوله : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ) الآية [ 50 ] .
المعنى : أنه خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، والكتاب –هنا- : القرآن ، ومعنى ( مُصَدِّقاً( {[16687]} ) لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي : يصدق ما قبله من كتب الله أنها حق من الله ، ( وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) أي : شهيداً على الكتب/ أنها حق ، وأصل الهيمنة : الحفظ والارتقاب ، يقال للرجل إذا حفظ الشيء وشَهِدَه : " قد هَيْمَنَ ، يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً " ( {[16688]} ) . قال ابن عباس : ( وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) أي : شهيداً " ( {[16689]} ) عليه ، وهو قول السدي( {[16690]} ) . وقال قتادة : مهيمناً : [ أي ] : ( {[16691]} ) أميناً وشاهداً( {[16692]} ) .
وقال ابن جبير : ( وَمُهَيْمِناً ) [ أي ]( {[16693]} ) مؤتمناً )( {[16694]} ) ، القرآن مُؤتمن على ما قبله من الكتب ، وكذلك ( روي أيضاً )( {[16695]} ) عن ابن عباس والحسن وعكرمة( {[16696]} ) .
وقال عبد الله بن الزبير( {[16697]} ) : المهيمن : القاضي على ما قبله من الكتب .
وقال المبرد : الأصل " مُؤَيْمن " ، ثم أُبدِل من الهمزة هاء( {[16698]} ) .
قال أبو عبيد( {[16699]} ) : يقال : هيمن على الشيء ، إذا حفظه( {[16700]} ) .
وقرأ مجاهد وابن محيصن( {[16701]} ) : ( وَمُهَيْمِناً ) بفتح الميم( {[16702]} ) . قال مجاهد : " محمد عليه السلام مؤتمن( {[16703]} ) على القرآن " ( {[16704]} ) .
فيكون على قول( {[16705]} ) مجاهد ( وَمُهَيْمِناً ) حالاً( {[16706]} ) من الكاف في ( إِلَيْكَ )( {[16707]} ) . وعلى قول غيره حال من الكتاب ، مثل : ( مُصَدِّقاً )( {[16708]} ) .
والهاء في ( عَلَيْهِ ) –في قول مجاهد- تعود على الكتاب( {[16709]} ) ( الأول الذي هو القرآن( {[16710]} ) . وعلى قول غيره تعود على الكتاب )( {[16711]} ) الثاني الذي هو بمعنى الكتب المتقدمة التي القرآن يصدقها( {[16712]} ) ويشهد عليها( {[16713]} ) بالصحة أنها من عند الله( {[16714]} ) .
وقد طعن قوم في قول مجاهد من أجل الواو التي مع " مهيمن " ، لأن الواو توجب عطفه على " مصدق " ( {[16715]} ) ، و " مصدق " ( {[16716]} ) حال من الكتاب( {[16717]} ) الأول ، والمعطوف شريك المعطوف عليه ، قال : ولو كان حالاً من الكاف( {[16718]} ) التي للنبي صلى الله عليه وسلم في ( إِلَيْكَ ) ، لم يؤت بالواو ، فالواو( {[16719]} ) تمنع من ذلك . ولو تأول متأول أن ( مُصَدِّقاً ) حال من الكاف في ( إِلَيْكَ ) ، ( وَمُهَيْمِناً ) عطف عليه ، لَبَعُد ذلك ، من أجل قوله : ( لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) ، ولم يقل " يديك " ( {[16720]} ) .
وهو جائز على بُعدِه( {[16721]} ) على التشبيه بقوله : ( وَجَرَيْنَ بِهِم )( {[16722]} ) بعد قوله : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ ) . فإن تأولته( {[16723]} ) على هذا ، كان " مصدق " ( {[16724]} ) و " مهيمن " ( {[16725]} ) حالين من الكاف التي هي اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو المصدق للكتب المتقدمة ، والمؤتمن على الكتاب ، وهو القرآن( {[16726]} ) .
و( {[16727]} )قوله : ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) أي : إذا أتوك فاحكم بينهم بشرائع الله التي [ أنزلها ]( {[16728]} ) عليك( {[16729]} ) ، ( وَلاَ تَتَّبِعَ اَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ ) إذ قالوا : ( إِنُ اُوتِيتُمْ( {[16730]} ) هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُوتَوْهُ فَاحْذَرُوا )( {[16731]} ) أي : إن حَكَم بينَكُم ( في المحصنين )( {[16732]} ) بالتَّحْميم والجَلْدِ بِحَبْل ليف فاقبلوا( {[16733]} ) منه ، وإن لم يحكم بذلك فاحذروا أمره ولا تتبعوه ، وذلك قول يهود فَدَك ليهود المدينة ، فأمر الله نبيَّه ألا يتبع أهواءهم في ذلك ، وأن يحكم( {[16734]} ) بما أنزل الله أي : بحدوده( {[16735]} ) .
قوله( {[16736]} ) : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً [ وَمِنْهَاجاً ]( {[16737]} ) ) أي : شريعة ، ( وَمِنْهَاجاً )( {[16738]} ) أي : طريقاً واضحاً( {[16739]} ) .
قال قتادة : معناه أن للتوراة( {[16740]} ) شريعة ، وللإنجيل( {[16741]} ) شريعة ، وللقرآن( {[16742]} ) شريعة ، يُحِلُّ الله فيها ما( {[16743]} ) يشاء ، ويُحرِّم ما يشاء ، لِيَعْلَم أهل طاعته ، والإخلاصُ واحد ، والتوحيدُ واحدٌ لا يختلف ، ولا يقبل غيره ، وهو الإسلام ، فالإسلام دين الأنبياء كلهم وشرائعهم في ( الحلال والحرام )( {[16744]} ) والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات مختلِفٌ( {[16745]} ) على ما أراد الله من أمة كل نبي ، لِيبلوَ الجميع بما يشاء من أحكامه ، فَيَجْزِي الطائعُ ويعاقب العاصي ، لا إله إلا هو( {[16746]} ) .
وقال مجاهد : معناه : لِكُلِّكُم( {[16747]} ) جعلنا القرآن شِرعةً ومنهاجاً ، أي : شرعة وطريقاً واضحاً ، عنى( {[16748]} ) بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، هذا معنى قوله( {[16749]} ) .
واختار الطبري القول( {[16750]} ) الأول ، وهو أن يكون : ( {[16751]} ) لكل أمة جعلنا شريعة وطريقاً( {[16752]} ) ، / واستدل بقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمُ اُمَّةً وَاحِدَةً )( {[16753]} ) أي( {[16754]} ) يجعلكم ( كلكم )( {[16755]} ) –أيها الأُممُ- على شريعة واحدة ، قال : ولو عنى( {[16756]} ) بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن لقوله ( لَجَعَلَكُمُ اُمَّةً وَاحِدَةً ) فائدة ، لأنهم أمة واحدة –أمة محمد- قد فعل بهم ذلك . ويدل على أنه أراد به الأمم ( أنه قد جرى )( {[16757]} ) ذكر الكتب التي قبل القرآن ، وذكر عيسى وغيره ، فرجع الكلام على ذلك( {[16758]} ) . وقال ابن عباس ( شرعة ومنهاجاً ) : سبيلاً وسنة ، وكذلك قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك : إن الشرعة السبيل ، والمنهاج السنة( {[16759]} ) .
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمُ( {[16760]} ) أُمَّةً وَاحِدَةً ) أيي : على دين واحد وعلى شريعة واحدة( {[16761]} ) .
قوله تعالى( {[16762]} ) : ( وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَاءَ( {[16763]} ) اتَاكُمْ ) في الكلام حذف ، والمعنى : ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم فيما آتاكم من شرائعه( {[16764]} ) . وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد( {[16765]} ) به النبي ومن معه ومن مضى من الأمم( {[16766]} ) .
( فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) أي : فبادروا( {[16767]} ) إلى عملها قبل أن تعجزوا عنها بموت أو هرم أو مرض ، فإن ( مرجعكم إلى الله )( {[16768]} ) ، فيجازيكم بأعمالكم ، ويخبر( {[16769]} ) كل فريق بعمله ، ويبين( {[16770]} ) المحق من المبطل ، ( وتنقطع الدعاوى( {[16771]} ) ، لأن الأنبياء قد أخبرت بالمحق من المبطل )( {[16772]} ) في الدنيا ، ولكن الدعاوى( {[16773]} ) لم تنقطع ، ففي الآخرة تنقطع الدعاوى( {[16774]} ) وتقع الحقائق( {[16775]} ) .