تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ} (37)

الآية 37 وقوله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلِمون } : في ذلك آيات من وجوه :

أحدها : آية القدرة على البعث والإحياء عند الموت .

والثاني : آية الوحدانية له والألوهية .

والثالث : آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي .

أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهارا ، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكلّيته ، حتى لا يبقى منه شيء . ومجيء الآخر وانتزاع هذا من هذا ، وإدخاله في الآخر ، دلالة أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، له{[17434]} قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة .

فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت ، [ إذ الإحياء بعد الموت ]{[17435]} ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا .

والأعجوبة في هذا ، إن لم تكن أكثر ، أعني في جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر ، ليست{[17436]} بدون الإحياء بعد الموت . فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته ليس بإقدار من غيره ، فلا يُعجزه شيء ، ولا قوة إلا بالله .

وأما دلالة الوحدانية ، فهي{[17437]} إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه ، وإجراؤُه على مجرى واحد وسَنَن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا وهذا في هذا [ كل هذا ]{[17438]} دلالة أنه فعل [ واحد ، إذ لو كان فعل ]{[17439]} عدد لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر ، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبة صاحبه وقهره . وكذلك مُنشئ النهار إذا غلب منشئ الليل لهم به على إبانة{[17440]} بالآخر وغلبته عليه ، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو في ما أنشأ الآخر . فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد ، وهو رد على الثّنوية .

وأما دلالة العلم الذاتي له والتدبير الأزليّ فهي{[17441]} إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله ، أعني حاجة أهل الدهر ، وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه أو تنتهي حاجتهم ومنافعهم . دل أنه كان ، ولم يزل عالما بحوائجهم ومنافعهم حين{[17442]} أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير حاجتهم ومنافعهم ، وأن له علما ذاتيا وتدبيرا أوليًّا لا علما مكتسبا ومستفادا ، وأن له القدرة والسلطان حين{[17443]} لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار ، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل ، ولا [ قدر ]{[17444]} أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر . بل أظلم الليل [ على الخلائق ]{[17445]} كلهم ، وستر عليهم كل شيء ، شاؤوا ، أو أبَوا ، وأضاء لهم النهار كل مستور عليهم ، وأبدى لهم كل مختلف ، شاؤوا ، أو أبوا .

دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك ، والسلطان الذاتي غير{[17446]} مكتسب مستفاد [ والعلم الذاتي ]{[17447]} لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال .

وهذا يبطل قول الفلاسفة : إن العقل درّاك بنفسه كالنار : حارة بطبعها ، مُحرِقة بذاتها ، فلو كان يدرك بنفسه لكان لا جائز أن يكون [ أدرك ما ]{[17448]} هنالك ، أو يشتبه عليه شيء بوجه من الوجوه .

وإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه درّاك بغيره ، فيُدرك على قدر ما تجلّى له الأمر ، وانكشف ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { نسلُخ } أي : ننزع { منه النهار } .

وقوله تعالى : /446-أ/ { فإذا هم مظلمون } أي : داخلون في الظلمة ، يقال : أظلم فلان إذا دخل في الظلمة .

ثم سورة { يس } نزلت كلها بمكة [ في ]{[17449]} محاجّة أهل مكة في إنكارهم التوحيد ، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رمادا وإنكارهم الرسالة . وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة : منهم من أنكر التوحيد ، ومنهم من أنكر البعث ، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها .

فبيّن الله تعالى في هذه السورة ، وذكر فيها ، الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري [ البعث وعلى منكري ]{[17450]} الرسالة ، وهو ما ذكر من الآيات . من ذلك قوله : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } وفيه دلالة القدرة على البعث ما بيّنا في ما تقدم .

وفي قوله : { وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون } دلالة الوحدانية له ، لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات الأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض منافع من السماء تتصل بالأرض .

فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبّرهما واحد . إذ لو كان فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا في ما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العُرف ، والله أعلم . وما ذكر أيضا من الليل [ والنهار ]{[17451]} على تضادّهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية ، ودلالة البعث ، ودلالة العلم الذاتي الأزليّ .

أما دلالة الوحدانية فهي{[17452]} ما جمع في الليل والنهار على تضادّهما واختلافهما منافع الخلق وحوائجهم ، كأنهما شكلان . فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد [ إذ لو كان فعل عدد ]{[17453]} لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره . فدلّ الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد أنه فعل واحد .

وأما{[17454]} دلالة البعث فما{[17455]} ذكرنا من إذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكلّيته .

ودلّ إجراؤهما مجرى واحدا من أول ما أنشأهما إلى آخر ما ينتهي ذلك ، وينتهي العالم على منافعهم وحوائجهم ، أنه عالم بذاته مدبّر بنفسه وأن له علما ذاتيا وتدبيرا أزليّا لا مكتسبا مستفادا .

[ وأما دلالة الرسالة فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد ، فعرّفهم ، وأتاهم بحُججه وبراهينه ، دل أنه بالله عرف ذلك ، والله أعلم ]{[17456]} .

وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر وتسخيرهما لمنافع هذا العالم وحوائجهم وقطعهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة خمس مئة عام .

فدل ذلك كله على أنه واحد ، لا شريك له ، قادر ، لا يعجزه شيء ، وعالم ، مدبّر ، لا يخفى عليه شيء .

وعلى ذلك ما ذكر في قوله : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفُلك المشحون } [ يس : 41 ] دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب ، أنشأها لهم ، وعلّمهم [ اتخاذ السّفن ]{[17457]} ليصلوا إلى تلك المنافع والحوائج . فدل أنه فعل واحد ، إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا ، وأنه عالم بذاته مدبّر . ولذلك قال : { ذلك تقدير العزيز العليم } [ يس : 38 ] أي : ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يُعجزه شيء . والعليم الذي لا يخفى عليه شيء . وبالله القوة .


[17434]:في الأصل وم: وله.
[17435]:من م، ساقطة من الأصل.
[17436]:في الأصل وم: ليس.
[17437]:في الأصل وم: فهو.
[17438]:ساقطة من الأصل: وم.
[17439]:من م، ساقطة من الأصل.
[17440]:من م، في الأصل: ليلة.
[17441]:في الأصل وم: هو.
[17442]:في الأصل وم: حيث.
[17443]:في الأصل وم: حيث.
[17444]:ساقطة من الأصل وم.
[17445]:في الأصل: الخلائق، في م: والخلائق.
[17446]:في الأصل وم: لا.
[17447]:في الأصل وم: إذ فاعلم.
[17448]:في الأصل وم: ولا درك.
[17449]:ساقطة من الأصل وم
[17450]:من م، ساقطة من الأصل.
[17451]:من م، ساقطة من الأصل.
[17452]:في الأصل وم: فهو.
[17453]:ساقطة من الأصل وم.
[17454]:في الأصل وم: فيه.
[17455]:في الأصل وم: لما.
[17456]:أدرجت في الأصل وم قبل تفسير قوله تعالى: {والقمر قدّرناه منازل}.
[17457]:ساقطة من الأصل وم.