الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ} (101)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وما ظلمناهم} فنعذبهم على غير ذنب، {ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله}، يعني: التي يعبدون من دون الله {من شيء} حين عذبوا، {لما جاء أمر ربك}، يعني: حينما جاء قول ربك في العذاب، {وما زادوهم}، يعني: الآلهة {غير تتبيب}، يعني: غير تخسير، حيث لم ينفعوهم عند الله.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القُرى التي اقتصصنا نبأها عليك يا محمد بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتناهم في غير موضعها، {ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ}، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبته وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها.

{فَمَا أغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ منْ دُونِ اللّهِ منْ شَيْءٍ}، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ويدعونها أربابا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربهم من شيء، ولا ردّت عنهم شيئا منه.

{لَمّا جاءَ أمْرُ رَبّكَ} يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه ونزل بهم سخطه.

{وَما زَادُوهُمْ غيرَ تَتْبيبٍ}، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسير وتدمير وإهلاك، وهذا الخبر من الله تعالى ذكره، وإن كان خبرا عمن مضى من الأمم قبلنا، فإنه وعيد من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة: أنا إن سلكنا سبيل الأمم قبلنا في الخلاف عليه وعلى رسوله، سلك بنا سبيلهم في العقوبة، وإعلام منه لنا: أنه لا يظلم أحدا من خلقه، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَمَا ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتكاب ما به أهلكوا {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ}: فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله {يَدْعُونَ}: يعبدون وهي حكاية حال ماضية... {أَمْرُ رَبّكَ}: عذابه ونقمته {تَتْبِيبٍ}: تخسير، يقال تبّ إذا خسر، وتببه غيره، إذا أوقعه في الخسران.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للإيقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال: فعلنا بهم وأنبأناك به: {وما ظلمناهم} في شيء منه {ولكن ظلموا أنفسهم} واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم {فما} أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما {أغنت عنهم} أي بوجه من الوجوه {آلهتهم التي} وصور حالهم الماضية فقال: {يدعون} أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وبين خسة رتبتها فقال: {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ وذكر مفعول "اغنت "مغرقاً في النفي فقال: {من شيء} أي وإن قل {لما جاء أمر} أي عذاب {ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة {وما زادوهم} في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها {غير تتبيب} أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وفسادهم في الأرض، وإصرارهم حتى لم يعد فيهم بقية من قبول الحق وإيثار الخير على الشر، بحيث لو بقوا زمنا آخر لما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا، كما قال نوح عليه السلام: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} [نوح: 27]، وقد بالغ رسلهم في وعظهم وإرشادهم، فما زادهم نصحهم لهم إلا عنادا وإصرارا، وأنذروهم العذاب فتماروا بالنذر استكبارا، واتكلوا على دفع آلهتهم العذاب عنهم إن هو نزل...

{فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} أي فما نفعتهم آلهتهم التي كانوا يدعونها، ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها، أو بشفاعتها عند الله تعالى لما جاء عذاب ربك تصديقا لنذر رسله.

{وما زادوهم غير تتبيت} أي هلاك وتخسير وتدمير، وهو من التباب أي الخسران والهلاك، يقال: تببه تتبيبا أي أهلكه، وتب فلان وتبت يده أي خسر أو هلك، "وتبا له "في الدعاء بالهلاك، ومعنى زيادتهم إياهم تتبيبا أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على ظلمهم وفسادهم، ظنا أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما قال بعضهم لرسولهم: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54].

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم).. فهم قد عطلوا مداركهم، وتولوا عن الهدى، وكذبوا بالآيات، واستهزأوا بالوعيد، فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين. (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب).. وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص. فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه؛ وتكرر الإنذار مع كل رسول؛ وقيل لهم: إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصمهم من الله.. فها هي ذي العاقبة تصدق النذر. فلا تغني عنهم آلهتهم شيئا، ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودمارا. [ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد] ذلك أنهم اعتمدوا عليهم، فزادوا استهتارا وتكذيبا. فزادهم الله نكالا وتدميرا. فهذا معنى (ما زادوهم) فهم لا يملكون لهم ضرا كما أنهم لا يملكون لهم نفعا. ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسَهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب. وفرع على ظلمهم أنفسَهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئاً، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مَظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتماداً على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضاداً لتأميلهم وتقديرهم...

والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حَلّ بهم من الاستئصال ما شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين. وجملة {وما زادوهم غير تتبيب} عِلاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسبُ ولكنهم زادتهم تتبيباً وخسراناً، أي زادتهم أسبابَ الخسران...

ووجه زيادتهم إياهم تتبيباً حينئذٍ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب. ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيباً قبل مجيء أمر الله بأنْ زادهم اعتقادهم فيها انصرافاً عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

أي ما نزل بهم لم يكن ظلما، بل كان عدلا؛ لأنه لا يستوي المحسن والمسيء، والأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، فهو جزاء عمل، وجزاء العمل من جنسه، ولكن ظلموا أنفسهم بإضلالهم بالشرك، وانسياقهم في طريق الفساد، ومعاندتها للحق واضطهادها لأهلهم، وإشاعتها للضلال، وخضوعها للأوهام بدل العقل المدرك المستقيم...

وإنهم إذا تردوا في هذا الهلاك الذي نزل بهم منعا لاستمرار فسادهم، وطغيانهم، ومحاربتهم – بدا لهم عيانا بيانا أن الآلهة التي اتخذوها من الحجارة أو غيرها، لا تدفع عنهم ضرا، ولا تجلب لهم نفعا، ولا تحميهم مما نزل بهم، ولذا قال تعالت حكمته: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء}، {من} هنا لاستغراق النفي،أي ما أغنت عنهم الآلهة التي زعموها مضادة لله تعالى أي شيء من الغناء. وأضاف كلمة آلهة إليهم، لبيان أنها ليست آلهة في ذاتها، وهي عاجزة كل العجز، إنما هي آلهة في زعمهم، وأوهامهم التي أضلتهم، وسارت في ضلال بعيد. إن هذه الآلهة أخزتهم، ولم تفدهم؛ لأنهم ساروا في الضلال إلى أقصى الغاية بل إنهم {لما جاء أمر ربك} بالإهلاك، وهو خالقكم والقائم على وجودكم لم يستطيعوا دفعا للضرر، ولا جلبا لنفع {وما زادوهم غير تتبيب} التباب الهلاك والتتبيب الإهلاك الشديد الذي يتضاعف في ذاته، أي ما زادوكم إلا هلاكا متضاعفا، والهلاك ليس زيادة في ذاته وإنما الزيادة هي زيادة الضرر. والتعبير بضمير جمع العقلاء، وليست الحجارة عاقلة إنما هو تهكم بهم، وبنظرهم الذي يعبد حجارة، ويرجو نفعها، وقوله تعالى: {غير تتبيب} أي هلاك متضاعف متكرر. وإن الله تعالى قدر العذاب وأنزله فكيف تزيد الحجارة فيما قدر الله وهي لا تملك من الأمر شيئا؟ والجواب عن ذاك أنه تصوير لحالهم مع هذه الحجارة، إذ إنهم استمروا في عبادتها لا ينون بل يجادلون، ويعاندون حتى جاءهم العذاب الأليم، وكلما زادوا عنادا كان العذاب على قدره، وعنادهم المتزايد، وعقابهم عليه المتضاعف، كله في تقدير الله العزيز الحكيم، والله حكيم عليم. إن هذا سنة الله تعالى في خلقه العصاة، ولذا قال تعالت كلماته:...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} لأننا عرّفناهم طريق الخير والشرّ، ورزقناهم وسائل المعرفة، وجعلنا لهم العقل ليحدّد لهم خطّ الهدى، وأرسلنا إليهم الأنبياء، وفتحنا لهم كل سبل النجاة على أساس الفكر والوحي والإرادة، وأنذرناهم بالعذاب الأليم، وجعلنا النتائج الإيجابية والسلبية تتحدد وفقاً لمواقع الحرية والاختيار التي يملكونها، وما ظلمناهم من أمرهم من شيء، {وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} لأنهم لم يأخذوا بأسباب النجاة، ولم يرتكزوا في حياتهم على قاعدة ثابتة من الهدى والإيمان، بل اتبعوا غير الله من آلهة الكفر، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} لأنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً، لافتقارها إلى القوة الذاتية، كونها مخلوقة لله محتاجة إليه في وجودها، وفي كل شيء آخر، فكيف تملك لغيرها النفع والضرر، وكيف تستطيع أن تدفع عن الناس أمر الله، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} لأن اتباعهم لهم، وعبادتهم إياهم أوقعاهم في خسارة الدنيا والآخرة، وهذا هو معنى التتبيب،...