الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب}، على نفسها وعلى يوسف في أمر الجماع،

{وقالت هيت لك}، يعني: هلم لك نفسي، تريد المرأة: الجماع، فغلبته بالكلام، {قال معاذ الله}، يعني: أعوذ بالله،

{إنه ربي أحسن مثواي}، يقول: إنه سيدي، يعني: زوجها، أكرم مثواي، يعني: منزلتي،

{إنه لا يفلح}، يعني: لا يفوز،

{الظالمون}، إن ظلمته في أهله، وألقى عليها شهوة أربعين إنسانا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وراودت امرأة العزيز، وهي التي كان يوسف في بيتها {يوسُفَ} عن نفسه أن يواقعها.

{وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ}، يقول: وغلّقت المرأة أبواب البيوت، عليها وعلى يوسف لما أرادت منه، وراودته عليه، بابا بعد باب.

{وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ} بمعنى: هلمّ لك، وادن، وتقرّب... وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين: {وَقالَتْ هِئْتُ لَكَ} بكسر الهاء، وضمّ التاء، والهمز، بمعنى: تهيأت لك، من قول القائل: هِئْتُ للأمر أَهِيء هَيْئَةً... {قالَ مَعاذَ الله}، يقول جلّ ثناؤه: قال يوسف، إذ دعته المرأة إلى نفسها، وقالت له:"هلمّ إليّ" : أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه، وأستجير به منه.

{إنّهُ رَبّي أحْسَنَ مَثْوَايَ}، يقول: إن صاحبك وزوجك سيدي... وقوله: {أحْسَنَ مَثْوَايَ}، يقول: أحسن منزلتي، وأكرمني، وائتمنني، فلا أخونه... كما: {إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالُمِونَ}، يقول: إنه لا يدرك البقاء، ولا ينجح مَن ظلم ففعل ما ليس له فعله، وهذا الذي تدعوني إليه من الفجور ظلم وخيانة لسيدي الذي ائتمنني على منزله.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لما غَلَّقَتْ عليه أبوابَ المسكنِ فَتَحَ الله عليه باب العصمة، فلم يُضِرْه ما أُغْلِقَ بعد إكرامه بما فُتِحَ. وفي التفسير أنه حفظ حُرْمةَ الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز. وفي الحقيقة أشار بقوله: {إِنَّهُ رَبِى} إلى ربِّه الحقِّ تعالى: هو مولاي الحق تعالى، وهو الذي خلَّصني من الجُبِّ، وهو الذي جعل في قلب العزيز لي محلاً كبيراً فأكرم مثواي فلا ينبغي أَنْ أُقْدِمَ على عصيانه -سبحانه- وقد غمرني بجميل إحسانه. ويقال إن يوسف عليه السلام قال لها: إن العزيز أمرني أَنْ أنفعَه. {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} فلا أَخُونُه في حُرْمَتِه بظهر الغيب. ويقال لمَّا حفظ حُرْمة المخلوقِ بظهر الغيب أكرمه الحقُّ سبحانه بالإمداد بالعصمة في الحال ومَكَّنَه من مواصلتها في المآل على وجه الحَلاَل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعني: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها... {مَعَاذَ الله} أعوذ بالله معاذاً {إِنَّهُ} إن الشأن والحديث {ربي} سيدي ومالكي... {أَحْسَنَ مَثْوَاي} حين قال لك أكرمي مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

أصل المراودة: الإرادة والطلب برفق ولين...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه، أتبعه دليله فقال: {وراودته} أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود -إذا جاء وذهب {التي} هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه {هو في بيتها} وهو في عنفوان الشباب {عن نفسه} أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاوز نفسه إلاّ بعد مخالطتها- كما تقول: كان هذا عن أمره، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب، وذلك لأن مادة "راد "واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة: رود، ودور، وورد، "ودير" وردي، وريد، ودري -تدور على الدوران، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك.

{وغلقت} أي تغليقاً كثيراً {الأبواب} زيادة في المكنة... والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه {وقالت هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري؛ والمادة- على تقدير أصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها: يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة -تدور على إرادة امتثال الأمر: هيت لك- مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أي هلم، وهيت تهييتاً: صاح ودعاه، وهات -بكسر التاء أعطني -... ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت، مع ما هي عليه من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب، كان كأنه قيل: إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد، فماذا كان منه؟ فقيل: {قال} أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم {معاذ} أي أعوذ من هذا الأمر معاذ {الله} أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة، وملجأه الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي الله {ربي} أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر، فأنا أرجو إحسانه في هذا {أحسن مثواي} بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه، وهذا التقدير- مع كونه أليق بالصالحين المراقبين -أحسن، لأنه يستلزم نصح العزيز، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى. ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول: وإذا كان ظلماً كان ماذا؟ قال ما تقديره: إني إذن لا أفلح، وعلله بقوله: {أنه لا يفلح} أي لا يظفر بمراده أصلاً {الظالمون} أي العريقون في الظلم- وهو وضع الشيء في غير موضعه -الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ في بَيْتِهَا} رجوعٌ إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيزِ بعد ما أمر امرأتَه بإكرام مثواه. وقوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} إلى هنا اعتراضٌ جيء به أُنموذجاً للقصة ليعلم السامعُ من أول الأمر أن ما لقِيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ وأنه عليه السلام محسِنٌ في جميع أعمالِه لم يصدُر عنه في حالتي السراءِ والضراءِ ما يُخِلُّ بنزاهته، ولا يخفى أن مدارَ حسنِ التخلصِ إلى هذا الاعتراضِ قبل تمام الآيةِ الكريمةِ إنما هو التمكينُ البالغُ المفهومُ من كلام العزيز، فإدراجُ الإنجاءِ السابق تحت الإشارةِ بذلك في قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا} كما فعله الجمهورُ ناءٍ من التقريب فتأملْ. والمراودةُ المطالبةً من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيءٍ ومنه الرائدُ لطالب الماءِ والكلأ، وهي مفاعلةٌ من واحد نحوُ مطالبةِ الدائنِ ومماطلةِ المديونِ ومداواةِ الطبيب ونظائِرها مما يكون من أحد الجانبين الفعلُ ومن الآخر سببُه فإن هذه الأفعالَ وإن كانت صادرةً عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابُها صادرةً عن الجانب الآخر جُعلت كأنها صادرةٌ عنهما {عَن نفْسِهِ} أي فعلت ما يفعل المخادِع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارةٌ عن التمحّل في مواقعته إياها، والعدولُ عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للاستهجان بذكره، وإيرادُ الموصول لتقرير المراودةِ فإن كونَه في بيتها مما يدعو إلى ذلك، قيل لواحدةٍ: ما حملك على ما أنت عليه مما لا خيرَ فيه؟ قالت: قربُ الوساد وطولُ السواد، ولإظهار كمالِ نزاهته عليه السلام فإن عدمَ ميلِه إليها مع دوام مشاهدتِه لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملَكتِها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة {وَغَلَّقَتِ الأبواب} قيل:... للمبالغة في الإيثاق والإحكام {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} قرىء بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أينَ وعيط، وهيتِ كجَيرِ وهَيتُ كحيث اسم فعل معناه أَقبلْ وبادر، واللام للبيان أي لك أقول هذا كاللام في هلم لك وقرىء هِئتُ لك على صيغة الفعل بمعنى تهيأتُ، يقال: هاء يهييءُ كجاء يجيء إذا تهيأ وهُيِّئْتُ لك واللام صلة للفعل {قَالَ مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تدعينني إليه وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه من غاية القُبح ونهايةِ السوء، وقولُه عز وجل: {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مثواي} تعليلٌ للامتناع ببعض الأسباب الخارجيةِ مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيهِ على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سوّلتْه لها نفسُها، والضميرُ للشأن ومدارُ وضعه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المُغْنيةِ عن ذكره، وفائدةُ تصدير الجملةِ به الإيذانُ بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن، فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه له فضلُ تمكّنٍ، فكأنه قيل: إن الشأنَ الخطيرَ هذا وهو ربي أي سيدي العزيزُ أحسنَ مثواي أي أحسن تعهّدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أُسيء إليه بالخيانة في حَرَمه وفيه إرشادٌ لها إلى رعاية حقِّ العزيزِ بألطف وجهٍ، وقيل: الضميرُ لله عز وجل وربي خبرُ إن وأحسن مثواي خبرٌ ثانٍ أو هو الخبرُ والأولُ بدلٌ من الضمير، والمعنى أن الحالَ هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشةِ الكبيرةِ وفيه تحذيرٌ لها من عقاب الله عز وجل، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالةِ من غير تعرّضٍ لاقتضائها الامتناعَ عما دعته إليه إيذانٌ بأن هذه المرتبةَ من البيان كافيةٌ في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} تعليلٌ للامتناع المذكورِ غِبَّ تعليل، والفلاحُ الظفرُ وقيل: البقاءُ في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواتِه، والمرادُ بالظالم كلُّ من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاةُ لأمر الله تعالى دخولاً أولياً، وقيل: الزناةُ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمَزْنيِّ بأهله...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} هذه الجملة معطوفة على جملة وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه وما عللها به من حسن الرجاء فيه، وما بيّنه الله تعالى من عنايته به وتمهيد سبيل الكمال له بتمكينه في الأرض، يقول: إن هذه المرأة التي هو في بيتها نظرت إليه بغير العين التي نظر إليها بها زوجها، وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراده الله من فوقهما، هو أراد أن يكون قهرمانا أو ولدا لهما، والله أراد أن يمكن له في الأرض ويجعله سيد البلاد كلها، وهي أرادت أن يكون عشيقا لها، وراودته عن نفسه أي خادعته عنها وراوغته لأجل أن يرود أو يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو إرادة ربه، والله غالب على أمره، قال في المصباح المنير: أراد الرجل كذا إرادة وهو الطلب والاختيار، وراودته على الأمر مراودة وروادا من باب قاتل طلبت منه فعله وكأن في المراد معنى المخادعة لأن المراود يتلطف في طلبه تلطف المخادع ويحرص حرصه. وقال الراغب: المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد، أو ترود غير ما يرود، وذكر شواهد الآيات في هذه القصة ومنها قول إخوة يوسف له {سنراود عنه أباه} [يوسف: 61] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخاه معنا. وقال في أساس البلاغة: وراوده عن نفسه خادعه عنها وراوغه، وقال في الكشاف: المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحليل لمواقعته إياها، ولو رأت منه أدنى ميل إليها وهي تخلو به في مخادع بيتها لما احتاجت إلى مخادعته بالمراودة، ولما خابت في التعريض له بالمغازلة والمهازلة، تنزلت إلى المكاشفة والمصارحة، إذ كان كل ما سبقه منها وحدها لم يشاركها فيه. {وغلقت الأبواب} أي أحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الحجرات والغرف في بيوت الكبراء وباب الدار الخارجي، وقد يكون في أمثال هذه القصور أبواب أخرى متداخلة {وقالت هيت لك} أي هلم أقبل وبادر، زيادة "لك "بيان للمخاطب كما يقولون هلم لك وسقيا لك. واقتصر على هذا في التنزيل، وهو منتهى النزاهة في التعبير، والله أعلم بما زادته من الإغراء والتهييج الذي تقتضيه الحال، ونقل رواة الإسرائيليات عنها وكذا عنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة أنه كذب، فإن مثله لا يعلم إلا من الله تعالى أو بالرواية الصحيحة عنها أو عنه ولا يستطيع أن يدعي هذا أحد كما يأتي قريبا. و"هيت" اسم فعل قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبضمها كحيث، وروي أنها لغة عرب حوران، وكان سبب اختيارها أنها أخصر ما يؤدي المراد بأكمل النزاهة اللائقة بالذكر الحكيم، وهو ما لم يعقله أولئك الرواة لما يخالفه ويناقضه. {قال معاذ الله} أي أعوذ بالله معاذا أو أتحصن به، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين الفاسقين، كما قال بعد أن استعانت عليه بكيد صواحبها من النسوة: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} [يوسف: 33]. وجملة قال معاذ الله الخ بيان مستأنف لجواب يوسف مبني على سؤال تقديره: وماذا قال بعد تسفل المرأة وهي سيدته إلى هذه الدركة من التذلل له؟ وهو كما قالت مريم ابنة عمران للملك الذي تمثل لها بشر {إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] وعلل هذه الاستعاذة {إنه ربي أحسن مثواي} أي إنه تعالى ولي أمري كله أحسن مقامي عندكم وسخركم لي بما وفقني له من الأمانة والصيانة فهو يعيذني ويعصمني من عصيانه وخيانتكم، ويحتمل أنه أراد بربه مالكه العزيز في الصورة وإن كان حرا مظلوما في الحقيقة، كما يقال رب الدار، وكان من عرفهم إطلاقه على الملوك والعظماء كما يأتي في قوله عليه السلام لساقي الملك في السجن {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] ولكن الله عاقبه أنه لم يذكر حينئذ ربه، فكان نسيانه له سببا لطول مكثه في السجن كما يأتي، ثم إنه قال لرسول الملك. إذ جاءه يطلبه لأجله {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} [يوسف: 50] وعلى هذا القول وقد جرى عليه الجمهور يكون الضمير في "أنه" ما يسمونه ضمير الشأن والقصة أي إن الشأن الذي أنا فيه هو أن سيدي المالك لرقبتي قد أحسن معاملتي في إقامتي عندكم وأوصاك بإكرام مثواي فلن أجزيه على إحسانه بشر الإساءة وهو خيانته في أهله، وهذا التفسير تعليل لرد مراودتها بعد الاستعاذة بالله منها، لا تعليل للاستعاذة نفسها كالأول، والفرق بينهما دقيق لما بينهما من العموم في الأول والخصوص في الثاني، ثم علل امتناعه بما هو خاص بنزاهة نفسه فقال: {إنه لا يفلح الظالمون} لأنفسهم وللناس كالخيانة لهم والتعدي على أعراضهم وشرفهم، لا يفلحون في الدنيا ببلوغ مقام الإمامة الصالحة والرياسة العادلة، ولا في الآخرة بجوار الله ونعيمه ورضوانه. وفي جملة الجواب من الاعتصام والاعتزاز بالإيمان بالله والأمانة للسيد صاحب الدار والتعريض بخيانة امرأته له المتضمن لاحتقارهم ما أضرم في صدرها نار الغيظ والانتقام، مضاعفة لنار الغرام، وهو ما بينه تعالى بقوله مؤكدا بالقسم لأنه مما ينكره الأخيار من شرور الفجار: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعندئذ تجيئه المحنة الثانية في حياته، وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى. تجيئه وقد أوتي صحة الحكم وأوتي العلم -رحمة من الله- ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه. والآن نشهد ذللك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! قال: معاذ الله. إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون -ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. إنه من عبادنا المخلصين- واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر، وألفيا سيدها لدى الباب. قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؟ إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: هي راودتني عن نفسي. وشهد شاهد من أهلها. إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين؛ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن. إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك، إنك كنت من الخاطئين).. إن السياق لم يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه؛ فلننظر في هذا الأمر من باب التقدير. لقد كان يوسف غلاما عندما التقطته السيارة وباعته في مصر. أي إنه كان حوالي الرابعة عشرة تنقص ولا تزيد. فهذه هي السن التي يطلق فيها لفظ الغلام، وبعدها يسمى فتى فشابا فرجلا... وهي السن التي يجوز فيها أن يقول يعقوب: (وأخاف أن يأكله الذئب).. وفي هذا الوقت كانت هي زوجة، وكانت وزوجها لم يرزقا أولادا كما يبدو من قوله: (أو نتخذه ولدا).. فهذا الخاطر.. خاطر التبني.. لا يرد على النفس عادة إلا حين لا يكون هناك ولد؛ ويكون هناك يأس أو شبه يأس من الولد. فلا بد أن تكون قد مضت على زواجهما فترة، يعلمان فيها أن لا ولد لهما. وعل كل حال فالمتوقع عن رئيس وزراء مصر ألا تقل سنه عن أربعين سنة، وأن تكون سن زوجه حينئذ حوالي الثلاثين. ونتوقع كذلك أن تكون سنها أربعين سنة عندما يكون يوسف في الخامسة والعشرين أو حواليها. وهي السن التي نرجح أن الحادثة وقعت فيها.. نرجحه لأن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها كانت مكتملة جريئة، مالكة لكيدها، متهالكة كذلك على فتاها. ونرجحه من كلمة النسوة فيما بعد.. (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه).. وإن كانت كلمة فتى تقال بمعنى عبد، ولكنها لا تقال إلا ولها حقيقة من مدلولها من سن يوسف. وهو ما ترجحه شواهد الحال. نبحث هذا البحث، لنصل منه إلى نتيجة معينة. لنقول: إن التجربة التي مر بها يوسف -أو المحنة- لم تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق. إنما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جو القصور، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين). وكفى..! والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فيفتتن به، ويصرحن، فتصرح المرأة: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة. هي بيئة الطبقة المترفة دائما. ويوسف كان فيها مولى وتربى فيها في سن الفتنة.. فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيرا أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب. وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل. وهي كانت متهالكة. والآن نواجه النصوص: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك!).. وإذن فقد كانت المراودة في هذه المرة مكشوفة، وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير.. وحركة تغليق الأبواب لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة، وقد وصلت المرأة إلى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة، ونداء الجسد الأخير: (وقالت: هيت لك!). هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة. إنما تكون هي الدعوة الأخيرة. وقد لا تكون أبدا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا. والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج، فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة. (قال: معاذ الله. إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون).. (معاذ الله).. أعيذ نفسي بالله أن أفعل. (إنه ربي أحسن مثواي). وأكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن. (إنه لا يفلح الظالمون).. الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

تجربة الإغراء الصعبة: وبدأت التجربة الصعبة في حياته، فها هو يواجه الإغراء بأشدّ صوره، مما لا يملك الامتناع عنه، إذا أراد لحياته أن تستمر في النعيم الذي يتقلّب فيه، والامتيازات التي يملكها، وإلا فَقَدَ ذلك كله، مع خطر على الحرية التي يعيش فيها، وخوف على حياته من الهلاك. إنه في سن المراهقة حيث تتفتح الغرائز في فضاء الشهوة، وتضيع المشاعر في أجواء العاطفة، ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس، ويتحرك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضبابيّة المبهمة التي تثير الجوّ من حوله، ليحسّ بأنه يسبح في بحورٍ من الحب والخيال، مواجهاً المزيد من أمواج الحسّ التي تطغى على فكره وحكمته. ففي البيت تعيش امرأةٌ تضج شهوةً وعاطفةً إزاء ما يملك من حسن في ملامحه الجميلة، وهي في الوقت نفسه، امرأةٌ تتبوأ مواقع السلطة والقدرة، فلا يردّ لها أحد طلباً، ولا تمتنع عنها رغبةٌ، سواءٌ من قبل زوجها، أم من قبل أصحاب النفوذ الذين يحيطون بها، فكيف بهذا الشاب الذي لا حول له ولا قوّة، لأنه عبدٌ مملوكٌ اشتراه زوجها بماله ليخدمه ويخدمها ويستجيب لكل طلباتهما ورغباتهما، وقد كانت تشعر أن ما تريده من قضاء الشهوة معه، لا يمثل إلا بعض الرغبات الطبيعية التي يجب عليه تلبيتها كعبد لأسياده. وبدأت عملية الإغراء والمعاناة معاً، وتحركت كل الضغوط الجسدية والخارجية لتلاحق إرادته لتسقطها أمام التجربة الصعبة. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ} في عملية هجوم عاطفي يوحي إليه بأجواء الإغراء، ويحرّك فيه مكامن الشهوة، ويمنع عنه طريق الهروب، ولعل في التعبير بأنه في بيتها إيحاءً بالجو الضاغط الذي يحيط به، لتوفره على الاختلاط والسيطرة اللذين يسهّلان مهمة السقوط. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} في صوت يشبه الفحيح المحموم الذي يخرج من أعماق الغريزة، فقد استعدت كل الاستعداد الروحي والشعوري والجسدي لهذا الموقف، واعتبرت الحصول على ما تريده حالةً طبيعيّةً، ومهمةً سهلةً لا تحتاج إلا إلى طلب الاستجابة من يوسف، ولهذا كانت الدعوة بهذا الأسلوب الذي يختصر الموقف في كلمة مشبعة بالرغبة الحميمة «هلّم إليّ»، ولكن يوسف كان في عالمٍ آخر، فهو لا يعيش الاستغراق في عالم الحس وتحقيق الارتواء الغريزي، كقيمة إنسانية حيوية يستهدفها الشباب عموماً، بل يعيش لنداء الروح، في ما تنطلق به من روحية الإيمان، وإحساس الوفاء، فهو لا ينظر إلى ما في داخله من أشواق الحسّ، بل يتطلع إلى ما في روحه من آفاق السموّ نحو الله، وهذا ما عبّر عنه في كلمته التي صوّرها الله لنا بقوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} في كلمة مؤمنة موحية تعبّر عن الرفض الحازم من جهة، وعن اللجوء إلى الله، والاستجارة به من هذا النداء الشّبِق المفعم باللهفة والإغراء، الذي يكاد يفترس منه روح الطهر، ويدفعه إلى العهر والفجور. مواجهة الإحسان بالإحسان ثم انطلق ليتحسّس المسألة من جهة أخرى، وهي مسألة الوفاء لسيده الذي أحسن مثواه، فكيف يمكن أن يخونه في زوجته؟ إنه لو فعل ذلك فسوف يحس بالاحتقار لنفسه، كما يحس أيّ خائن، {إِنَّهُ رَبِّي} الذي رباني بما تتضمنه الكلمة من معنى التربية والرعاية والسيادة، {أَحْسَنَ مَثْوَاي} في ما أعدّه لي من منزلٍ وإحسانٍ وحرّيةٍ وراحةٍ، فلا بد من أن أواجه الإحسان بالإحسان، فلا أظلمه بالإساءة إليه وخيانته مع زوجته، لأن ذلك لن يحقق لي النجاح والفلاح في عواقب الأمور، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية، ويظلمون غيرهم بالخيانة، لأن النتائج لن تكون في صالح دنياهم أو آخرتهم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى إنّ الحديث عن الله لا عن سيدّه، فقد استعاذ يوسف به من الخضوع لإغراء الشهوة، ثم عبّر عن إحساسه بنعمة الله بالمستوى الذي يردعه عن الاندفاع للخيانة، ولهذا كان من المناسب إثارة جانب الاحترام الذي يشعر به يوسف تجاه سيّده، وربما كان التعبير بكلمة {رَبِّى} متعارفاً في الحديث عن السيّد المالك في ذلك المجتمع، كما أن كلمة {أَحْسَنَ مَثْوَايَّ} قد تكون أقرب إلى علاقة يوسف بزوجها الذي رعاه وحماه من التشرّد والضياع الذي يعاني منه العبيد عادة بالانتقال في أسواق النخاسة من مالك إلى مالك، ومن بلد إلى بلد، بينما كان ليوسف في قلب هذا الإنسان موقع الولد، كما عبّر {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وإن لم يصل ذلك إلى مستوى التبني، ولو كان الحديث عن الله لكان من المناسب الحديث عن النعم الكبيرة التي تتصل بوجوده وخلقه ورعايته في كل الأمور. أما عدم تقدّم ذكره، أو قرب ذكر لفظ الجلالة من موقع الضمير، فليس بشيء يحقق الظهور لما يريدونه، لأن الحديث عنه قد تقدّم في قوله، {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} كما أن جوّ الحادثة يوحي به بشكل بارز، فإن الموقف من الزوجة التي تريد خيانة زوجها يبعث على التفكير بالزوج بطريقةٍ طبيعيّةٍ، تماماً كما لو ذكر باللفظ. إنها ملاحظات قد ترجّح الوجه الذي نستقربه، والله هو العالم بحقائق آياته...