تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويقول الذين كفروا}... {لست مرسلا} يا محمد، لم يبعثك الله رسولا، فأنزل الله عز وجل، {قل}...: {كفى بالله شهيدا}، فلا شاهد أفضل من الله عز وجل، {بيني وبينكم} بأني نبي رسول، {ومن عنده علم الكتاب}، يقول: ويشهد من عنده التوراة، عبد الله بن سلام، فهو يشهد أني نبي رسول مكتوب في التوراة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره "وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا "بالله من قومك يا محمد "لَسْتَ مُرْسَلاً" تكذيبا منهم لك، وجحودا لنبوّتك، فَقُلْ لهم إذا قالوا ذلك: "كَفَى باللّهِ" يقول: قل حسبي الله شَهِيدًا، يعني شاهدا، "بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" عليّ وعليكم بصدقي وكذبكم، "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْم الكِتابِ"، ف"من" إذا قرئ به كذلك في موضع خفض عطفا به على اسم الله، وكذلك قرأته قرَأة الأمصار بمعنى: والذين عندهم علم الكتاب، الكتب التي نزلت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل، وعلى هذه القراءة فسّر ذلك المفسرون... وقد ذُكر عن جماعة من المتقدمين أنهم كانوا يقرأونه: «وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتابُ» بمعنى: من عند الله علم الكتاب... يقول: من عند الله علم الكتاب وجملته...
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويل، غير أن في إسناده نظرا...
فإذا كان ذلك كذلك وكانت قرّاء الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق على القراءة الأخرى، وهي: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ، كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرّاء الأمصار أولى بالصواب ممن خالفه، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحقّ بالصواب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أني نبي، ورسول الله إليكم بالآيات التي آتي بها...
أو كان قال لهم هذا لما بالغ في الحجاج والبراهين في إثبات الرسالة والنبوة، ولم يقبلوا ذلك، فأيس من تصديقهم. فعند ذلك قال: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ومن عنده علم الكتاب)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وَبالَ تكذيبهِم عائدُ إليهم، فإنَّ اللَّهَ شهيدٌ لَكَ بِصَدْقِك.
{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} هو الله سبحانه وتعالى عنده عِلْمُ جميع المؤمنين. فالمعنى كفى بالله شهيداً فعنده علم الكتاب وكفى بالمؤمنين شهيداً؛ إذ المؤمنون يعلمون ذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كفى بالله شَهِيدًا} لما أظهر من الأدلة على رسالتي {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر... وقيل: هو الله عز وعلا. والكتاب: اللوح المحفوظ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقدم قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية} عطف عليه -بعد شرح ما استتبعه- قوله: {ويقول الذين كفروا} أي أوجدوا الكفر ولو على أدنى الرتب، قولاً على سبيل التكرار: {لست مرسلاً} لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال: {قل كفى} والكفاية: وجود الشيء على مقدار الحاجة؛ ومعنى الباء في {بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة -التأكيد، لأن الفعل لما جاز أن يضاف إلى غير فاعله إذا أمر به أزيل هذا الاحتمال من وجهين: جهة الفاعل وجهة صرف الإضافة {شهيداً} أي بليغ العلم في شهادته بالاطلاع على ما ظهر وما بطن {بيني وبينكم} يشهد بتأييد رسالتي وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب، ويشهد بتكذيبكم بادعائكم القدرة على المعارضة وترككم لها عجزاً، وهذا على مراتب الشهادة، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بأن ما جاءت لأجله كما هو {ومن عنده علم الكتاب} مما أنزله فيه من الأصول والفروع والخبر عما كان ويكون على نحو من الأساليب ونمط من المناهيج أخرس الفصحاء، وأبكم البلغاء، وأبهت الحكماء، وهو الله تعالى، تأييداً وتحقيقاً لدعواي، ويؤيد أن المراد به "الله "قراءة {من} على أنها جارة، وفي سوقه هكذا على طريق الإبهام من ترويع النفس بهزّها إلى تطلب المتصف بهذا الوصف ما ليس في التعيين، فهو إذن كدعوى الشيء مقروناً بدليله، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أن المنزل حق من عنده وأنهم لا يؤمنون- والله الموفق.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وشهادته بقوله وفعله وإقراره، أما قوله فبما أوحاه الله إلى أصدق خلقه مما يثبت به رسالته. وأما فعله فلأن الله تعالى أيد رسوله ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد. وأما إقراره، فإنه أخبر الرسول عنه أنه رسوله، وأنه أمر الناس باتباعه، فمن اتبعه فله رضوان الله وكرامته، ومن لم يتبعه فله النار والسخط وحل له ماله ودمه والله يقره على ذلك، فلو تقول عليه بعض الأقاويل لعاجله بالعقوبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشرى في أرجاء الكون، وأرجاء النفس، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة. وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام، والتي يحسم بها كل جدل، وينتهي بعدها كل كلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على ما تضمنته جملة {وقد مكر الذين من قبلهم} [الرعد: 42] من التعريض بأن قولهم: {لولا أنزل عليه آية من ربه} [سورة الأنعام: 37] ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب. فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا: {لست مرسلاً}...
وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع. ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم. وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام {إنّي أشهد الله} [هود: 54]...
والموصول في {ومن عنده علم الكتاب} يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة. والمعنى: وكل من عندهم علم الكتاب...
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّناً، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح. وكان ورقة منفرداً بمعرفة التوراة والإنجيل. وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفاً عند قريش...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر سبحانه بعض مكر المشركين وغيرهم التي يقصدون بها تحويل المؤمنين وفتنتهم عن دينهم، فذكروا أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {لست مرسلا}، فهم يسلمون بأن لله رسالة، ولكن لست من أصحابها، فالله لم يرسلك، وهم بهذا ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وينكرون أن يكون له معجزة دالة على هذه الرسالة، ويريدون آيات أخرى غير القرآن، إذ لا يعدون القرآن آية، وما كان للنبي أن يأخذ كلامهم أخذ من يعتبره، وقد قام الدليل عليه بالتحدي، وإدراك أهل الذكر منهم ما فيه من نسق، ووثيق نظم؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم}، أي كفا الله شهيدا بيني وبينكم، فهو الحق وشهادته الحق، وليست شهادته كلاما يردد، ولكن شهادته معجزة تفحم، وقد جاءت الخوارق تترى بشهادة الحق في كل ما ترون من حياته، وما أحاط بها، وما دبرتم وقد رد تدبيركم في نحوركم، وقوله تعالى: {كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} فيه تهديد لهم بما يكون إنكارهم من عواقب وخيمة عليهم تنصر أهل الحق...
ويصح أن تقول: {شهيدا} معناه حاكم؛ لأن الشهادة تجئ بمعنى الحكم، كما في قوله تعالى: {...وشهد شاهد من أهلها...} [يوسف 26]، والمعنى وكفى بالله حاكما بيني وبينكم، ويرشح لهذا المعنى عبارة بيني وبينكم، فالحكم هو الذي يكون بين اثنين، وأما الشهادة فتكون لأحد الفريقين على الآخر...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ترى مما تقدم في تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية (1) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السماوات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله، وهذا تفصيل لما أجمله في السورة قبلها من قوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105].. (2) إثبات البعث ويوم القيامة، والتعجب من إنكارهم له.
(3) استعجالهم العذاب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.
(4) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله.
(5) ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام والزبد الرابي.
(6) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا في السر والعلن، وبيان مآلهم يوم القيامة.
(7) بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون في الأرض وبيان مآلهم.
(8) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله.
(9) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار.
(10) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما أنزل من القرآن، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب.
(11) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به: عبادة الله وحده، وعدم الشرك به، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب.
(12) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.
(13) تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.
(14) إن جميع الرسل صلوات الله عليهم كان لهم أزواج وذرية.
(15) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا، وإنما هي بإذن الله وإرادته.
(16) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هي محو وإثبات، وموت وحياة، فيزيل الله قوما ويوجد آخرين، وكل ذلك محفوظ في علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
(17) إن مهمة الرسل إنما هي التبليغ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله، ولا يعني الرسول أن يحصل في زمنه أو بعد وفاته.
(18) إن انتقام الله من المكذبين قد بدأ في حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم في البلاد.
(19) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد، فكثير من الأمم السالفة مكروا بأنبيائهم، وكان النصر حليف المتقين، ونكل الله بالقوم الظالمين.
(20) إلحاف الكافرين في إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم، مع بيان أن الله شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته صلى الله عليه وسلم في كتبهم وتبشيرها بها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن افتتاح السورة، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها، وكثيرا من التوجيهات فيها.. كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية -وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف- وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول [صلى الله عليه وسلم] واستعجال العذاب الذي ينذرهم به... ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني الرباني لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يجهر -في مواجهة الأعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق- بالحق الذي معه كاملا؛ وهو أنه لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا معبود إلا الله، وأن الله هو الواحد القهار، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار...
. وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين، وألا يخفوا منها شيئا، وألا يؤجلوا منها شيئا...
. وليس من "الحكمة والموعظة الحسنة "إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين، أو يكيدون له وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه؛ ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده!... والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلو -وهو هذا القرآن- وبين كتاب الكون المفتوح؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره. كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضا. ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعا؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعا!... وهذه السورة تحوي الكثير من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني -عقب الكتاب القرآني- في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها...
. إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها.. وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله -سبحانه- وربوبيته وحاكميته وسلطانه؛ فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق -على ذلك النحو- كيما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه.. ولتعريف الناس بربهم الحق، ونفي كل شبهة شرك، يعني المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة، وطبيعة الرسول.. ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من قبل، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة... وخلاصة هذا القول: إن أمر هذا الدين ليس إليه هو، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس. فالله وحده هو الذي يملك الهداية. وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته.. البلاغ.. وحسابهم بعد ذلك على الله.. وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته. فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله. بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر.. ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين.. ليس لهم أن يقولوا: لقد دعونا كثيرا فلم يستجب لنا إلا القليل؛ أو لقد صبرنا طويلا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء!.. إن عليهم إلا البلاغ.. أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد. إنما هو من شأن الله! فينبغي -تأدبا في حق الله واعترافا بالعبودية له- أن يترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار...
. والسورة مكية.. من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] "بالبلاغ" ذلك أن "الجهاد" لم يكن بعد قد كتب. فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد -بعد البلاغ- وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين. فالنصوص فيه نصوص حركية؛ مواكبة لحركة الدعوة وواقعها؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها.. وهذا ما تغفل عنه كثرة "الباحثين" في هذا الدين في هذا الزمان. وهم يزاولون "البحث" ولا يزاولون "الحركة" فلا يدركون -من ثم- مواقع النصوص القرآنية، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين! وكثيرون يقرأون مثل هذا النص: (إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ. فإذا قاموا "بالتبليغ" فقد أدوا ما عليهم!.. أما "الجهاد "! فلا أدري -والله- أين مكانه في تصور هؤلاء!... على أن (البلاغ) يظل هو قاعدة عمل الرسول، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين. وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد...
ثم نقف من السورة أمام معلم آخر، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه" الإنسان "وحركته وبين تحديد مآله ومصيره؛ وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال حركته بنفسه؛ وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص.. ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة الإسلامية في هذه القضية الخطيرة ...
وهذه نماذج منها كافية: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال)...
. وواضح من النص الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرا شعوريا وعمليا. فإذا غير القوم ما بأنفسهم اتجاها وعملا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم.. فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد، ولم يعصمهم من الله شيء، ولم يجدوا لهم من دونه وليا ولا نصيرا...
وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل.. ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم. فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص؛ تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)...
. وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمى وانطماس بصيرة، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها؛ وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون... وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا -بشهادة الله سبحانه- فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله.. لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته؛ أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه.. وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر -غير الإسلامي- بجملته -فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بقوله:"أنتم أعلم بشؤون دنياكم". فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق.. فهو أعمى بشهادة الله سبحانه.. ولن يرد شهادة الله مسلم.. ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!!!... وأخيرا نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين.. إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير. فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق.. هم الذين يفسدون في الأرض؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض، وتزكو بهم الحياة:... إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه.. إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد [صلى الله عليه وسلم] هو الحق وحده؛ والتي تتبع- من ثم -مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده.. إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية!.. إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد [صلى الله عليه وسلم] هو وحده الحق، الذي لا يجوز العدول عنه، ولا التعديل فيه.. إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله، تضع مناهج الحكم ومناهج الحياة، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع، فتجعل دينونتهم لغير الله.. وآية هذا الذي نقوله- استمدادا من النص القرآني -هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين. وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها.. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية!.. وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية!.. إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق.. لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم- من ثم -بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه...
إن المسلم يرفض- بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق -كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي، غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد، الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده. ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه. إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.. فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي!...