مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ} (43)

قوله تعالى : { ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب }

اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولا من عند الله . ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين : الأول : شهادة الله على نبوته ، والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقا في ادعاء الرسالة ، وهذا أعلى مراتب الشهادة ، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك . أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولا من عند الله تعالى ، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة . والثاني : قوله : { ومن عنده علم الكتاب } وفيه قراءتان : إحداهما : القراءة المشهورة : { ومن عنده } يعني والذي عنده علم الكتاب . والثانية : { ومن عنده علم الكتاب } وكلمة «من » ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب . أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال :

القول الأول : أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم : عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري . ويروى عن سعيد بن جبير : أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول : السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه ، لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة . وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل : هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية ، وأيضا فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز ، وهذا السؤال واقع .

القول الثاني : أراد بالكتاب القرآن ، أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر ، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزا إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة ، واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة . فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزا . فقوله : { ومن عنده علم الكتاب } أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم .

القول الثالث : ومن عنده علم الكتاب المراد به : الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل ، يعني : أن كل من كان عالما بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهدا على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول حق من عند الله تعالى .

القول الرابع : ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى ، وهو قول الحسن ، وسعيد بن جبير ، والزجاج قال الحسن : لا والله ما يعني إلا الله ، والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم ، وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره ، وهذا القول مشكل ، لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزا في الجملة إلا أنه خلاف الأصل . لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، بل يقال : شهد به زيد الفقيه ، وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد ، لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله :

{ والتين والزيتون } فأي امتناع فيما ذكره الزجاج .

وأما القراءة الثانية : وهي قوله : { ومن عنده علم الكتاب } على من الجارة فالمعنى : ومن لدنه علم الكتاب ، لأن أحدا لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ، ثم على هذه القراءة ففيه أيضا قراءتان : ومن عنده علم الكتاب ، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل ، أي هذا العلم إنما حصل من عند الله .

والقراءة الثانية : ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله ، والمعنى : أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه ، وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ، ولا يعلم كون القرآن معجزا إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره ، بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله ، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزا لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن ، والله تعالى أعلم بالصواب .

تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة . وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به ، أن يخص ولدي محمدا بالرحمة والغفران ، وأن يذكرني بالدعاء . وأقول في مرثية ذلك الولد شعرا :

أرى معالم هذا العالم الفاني *** ممزوجة بمخافات وأحزان

خيراته مثل أحلام مفزعة *** وشره في البرايا دائم داني