في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ} (43)

19

ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة . وقد بدأها بإثبات الرسالة . فيلتقي البدء والختام . ويشهد الله مكتفيا بشهادته . وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب :

( ويقول الذين كفروا : لست مرسلا . قل : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ، ومن عنده علم الكتاب )

وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشرى في أرجاء الكون ، وأرجاء النفس ، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة . وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام ، والتي يحسم بها كل جدل ، وينتهي بعدها كل كلام . .

ختام السورة:

تعقيب على تفسير سورة الرعد

وبعد . . ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية ، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة . . وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها ؛ لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات ؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين !

وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة ؛ فنرجو أن نقف عندها الآن وقفات أطول بقدر المستطاع .

. . والله المستعان . .

إن افتتاح السورة ، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها ، وكثيرا من التوجيهات فيها . . كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية - وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف - وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين ؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول [ ص ] واستعجال العذاب الذي ينذرهم به ؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول [ ص ] ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه ، في وجه المعارضة والإعراض ، والتكذيب والتحدي ؛ والاستعلاء بهذا الحق ، والالتجاء إلى الله وحده ؛ وإعلان وحدانيته إلها وربا ؛ والثبات على هذه الحقيقة ؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق ، مهما كذب بها المشركون . كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله ، وفي أنفسهم ، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك ؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطابا مؤثرا موحيا عميق الإيقاع قوي الدلالة .

وهذه نماذج من التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق ؛ وأن الإعراض عنه ، والتكذيب به ، والتحدي ، وبطء الاستجابة ، ووعورة الطريق . . كلها لا تغير شيئا من تلك الحقيقة الكبيرة :

( تلك آيات الكتاب ، والذي أنزل إليك من ربك الحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .

( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وإن ربك لشديد العقاب . ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد ) .

( له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ، إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .

( كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال ) . .

أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . .

( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . ألا بذكر الله تطمئن القلوب )

( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك . وهم يكفرون بالرحمن . قل : هو ربي ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وإليه متاب ) . .

والذين آتيانهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ، ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو ، وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا . ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق . .

( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .

( ويقول الذين كفروا : لست مرسلا . قل : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) . .

وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله [ ص ] ويتحدون بها هذا القرآن ؛ ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي .

ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني الرباني لرسول الله [ ص ] أن يجهر - في مواجهة الأعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق - بالحق الذي معه كاملا ؛ وهو أنه لا إله إلا الله ، ولا رب إلا الله ، ولا معبود إلا الله ، وأن الله هو الواحد القهار ، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار . . وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها . . وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه ! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم ! . .

وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها ! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين ، وألا يخفوا منها شيئا ، وألا يؤجلوا منها شيئا . . وفي مقدمة هذه الحقائق : أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا الله . ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله . . فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيا كانت المعارضة والتحدي ؛ وأيا كان الإعراض من المكذبين والتولي ؛ وأيا كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك . . وليس من " الحكمة والموعظة الحسنة " إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله ، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه ! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين ، أو يكيدون له وللدعاة إليه ! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ؛ ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي ، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية ، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده !

إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه ؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد [ ص ] بتوجيه من ربه . . فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق ؛ وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج . . والله - بعد ذلك - متكفل بدينه ، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت !

والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلو - وهو هذا القرآن - وبين كتاب الكون المفتوح ؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية ؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره . كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري ، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضا . ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعا ؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعا !

وهذه السورة تحوي الكثير من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني - عقب الكتاب القرآني - في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها . . وهذه بعض هذه النماذج :

آلمر . تلك آيات الكتاب . والذي أنزل إليك من ربك الحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .

الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ؛ ثم استوى على العرش ؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، يدبر الأمر ، يفصل الآيات ، لعلكم بلقاء ربكم توقنون . وهو الذي مد الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشى الليل النهار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل - صنوان وغير صنوان - يسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . .

يحشد السياق هذه المشاهد الكونية ، ليحيل الكون كله شاهدا ناطقا بسلطان الله - سبحانه - في الخلق والإنشاء ، والتقدير والتدبير . ثم يعجب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها ، ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى ، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه الحقيقة القريبة . . القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة . .

( وإن تعجب فعجب قولهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? أولئك الذين كفروا بربهم ، وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ، وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء . . . . .

يعرض هذه الصفحة من الوجود الكوني ليعجب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به ، وهم يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه ، ودينونة الكون له ، وتصريفه وتدبيره لأمر العباد فيه ؛ وعجز كل من عداه - سبحانه - عن الخلق والتدبير والتقدير :

( وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحال . له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه - وما هو ببالغه - وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وظلالهم بالغدو والآصال . . قل : من رب السماوات والأرض ? قل : الله . قل : أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل : هل يستوي الأعمى والبصير ? أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل : الله خالق كل شيء ، وهو الواحد القهار ) .

وهكذا يستحيل الكون معرضا باهرا لدلائل القدرة وموحيات الإيمان ، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل العميق ؛ ويخاطب الكينونة البشرية جملة ، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة والظاهرة ، في تناسق عجيب .

ثم يضيف إلى صفحات الكتاب الكوني ، صفحات التاريخ الإنساني ؛ ويعرض آثار القدرة والسلطانوالهيمنة والقهر والتقدير والتدبير في حياة الإنسان :

( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ! ) .

( الله يعلم ما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام وما تزداد ، وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال . سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله ، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ، وما لهم من دونه من وال ) . .

( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وفرحوا بالحياة الدنيا ، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) . .

ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله ، إن الله لا يخلف الميعاد . ولقد استهزى ء برسل من قبلك ، فأمليت للذين كفروا ، ثم أخذتهم ، فكيف كان عقاب ? .

أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? والله يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .

( وقد مكر الذين من قبلهم ، فلله المكر جميعا ، يعلم ما تكسب كل نفس ، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ! ) .

وهكذا يحشد المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري ؛ ويحيلها إلى مؤثرات وموحيات ، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق .

ونقف من هذا الحشد على معلم من معالم هذا المنهج في الدعوة إلى الله - على بصيرة - دعوة تخاطب الكينونة البشرية بجملتها ، ولا تخاطب فيها جانبا واحدا من قواها المدركة . . جانب الفكر والذهن ، أو جانب الإلهام والبصيرة ، أو جانب الحس والشعور . .

وهذا القرآن ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة ، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله ، قبل الاتجاه إلى أي مصدر سواه . والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس ، وكيف يوقظون القلوب الغافية ، وكيف يحيون الأرواح الخامدة .

إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله ، خالق هذا الإنسان ، العليم بطبيعة تكوينه ، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها . . وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحاكميته وسلطانه ؛ فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق - على ذلك النحو - كيما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده ، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه . .

ولتعريف الناس بربهم الحق ، ونفي كل شبهة شرك ، يعني المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول . . ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من قبل ، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة - وبخاصة في العقائد النصرانية - حيث خلعت على عيسى - عليه السلام - خصائص الألوهية وخصائص الربوبية ؛ ودخل أتباع شتى الكنائس في متاهة من الخلافات العقيدية المذهبية بسبب ذلك الخلط المنافي للحقيقة .

ولم تكن عقائد النصارى وحدهم هي التي دخلت في تلك المتاهة ؛ فقد خبطت شتى الوثنيات في ذلك التيه ؛ وتصورت للنبوة صفات غامضة ؛ بعضها يصل بين النبوة والسحر ! وبعضها يصل بين النبوة والتنبؤات الكشفية ! وبعضها يصل بين النبوة والجن والأرواح الخفية !

وكثير من هذه التصورات كان يخالج الوثنية العربية . . من أجل هذا كان بعضهم يطلب من الرسول [ ص ] أن ينبئهم بالغيب ! وبعضهم كان يقترح أن يصنع لهم خوارق مادية معينة ! كما أنهم كانوا يرمونه [ ص ] بأنه ساحر ، وبأنه " مجنون " - أي على صلة بالجن ! - وبعضهم كان يطلب أن يكون معه ملك . . . إلى آخر هذه المقترحات والتحديات والاتهامات التي كانت متلبسة بالتصورات الوثنية عن طبيعة النبي وطبيعة النبوة !

ولقد جاء هذا القرآن ليجلي الحقيقة كاملة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي ؛ وعن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ؛ وعن حقيقة الألوهية المتمثلة في الله وحده - سبحانه - وحقيقة العبودية التي تشمل كل ما خلق الله وكل من خلق ؛ ومنهم أنبياء الله ورسله ؛ فهم عباد صالحون ؛ وليسوا خلقا آخر غير البشر ؛ وليس لهم من خصائص الألوهية شيء ؛ وليسوا على اتصال بعوالم الجن والخفاء المسحور ! إنما هو الوحي من الله - سبحانه - وليس لهم وراءه شيء من القدرة على الخوارق - إلا بإذن الله حين يشاء - فهم بشر من البشر ، وقع عليهم الاختيار ، وبقيت لهم بشريتهم وعبوديتهم لله - سبحانه - كبفية خلق الله .

وفي هذه السورة نماذج من تجلية طبيعة النبوة والرسالة ؛ وحدود النبي والرسول ؛ وتخليص العقول والأفكار من رواسب الوثنيات كلها ؛ وتحريرها من تلك الأساطير التي أفسدت عقائد أهل الكتاب من قبل ؛ وردتها إلى الوثنية بأوهامها وأساطيرها !

وقد كانت تلك التجلية تواجه تحديات المشركين الواقعية ؛ ولم تكن جدلا ذهنيا ، ولا بحثا فلسفيا " ميتافيزيقيا " كانت " حركة " تواجه " الواقع " وتجاهد مجاهدة واقعية :

( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد ) . .

( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) . .

وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ، وهم يكفرون بالرحمن ، قل : هو ربي ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وإليه متاب . .

( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ، لكل أجل كتاب ) . .

( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .

وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول . . إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله . ثم هو عبد لله ، الله ربه ، وإليه متابه ومآبه ؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل ؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية ؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية . .

وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهومة في الفضاء والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية ؛ والتي قضت على " المسيحية " منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام ؛ تجعل المسيح عبدا لله ؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله .

ولا ننتهي من هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفتة البارزة في قوله تعالى :

( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .

إن هذا القول إنما يقال للنبي [ ص ] الرسول الذي أوحي إليه من ربه . وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة . . وخلاصة هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه ! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس . فالله وحده هو الذي يملك الهداية . وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته . . البلاغ . . وحسابهم بعد ذلك على الله . . وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته . فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله .

بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله ! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر . . ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين . . ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيرا فلم يستجب لنا إلا القليل ؛ أو لقد صبرنا طويلا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء ! . . إن عليهم إلا البلاغ . . أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد . إنما هو من شأن الله ! فينبغي - تأدبا في حق الله واعترافا بالعبودية له - أن يترك له سبحانه ، يفعل فيه ما يشاء ويختار . .

والسورة مكية . . من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول [ ص ] " بالبلاغ " ذلك أن " الجهاد " لم يكن بعد قد كتب . فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد - بعد البلاغ - وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين . فالنصوص فيه نصوص حركية ؛ مواكبة لحركة الدعوة وواقعها ؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها . . وهذا ما تغفل عنه كثرة " الباحثين " في هذا الدين في هذا الزمان . وهم يزاولون " البحث " ولا يزاولون " الحركة " فلا يدركون - من ثم - مواقع النصوص القرآنية ، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين !

وكثيرون يقرأون مثل هذا النص : ( إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ . فإذا قاموا " بالتبليغ " فقد أدوا ما عليهم ! . . أما " الجهاد " ! فلا أدري - والله - أين مكانه في تصور هؤلاء !

كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص ، فلا يلغون به الجهاد ، ولكن يقيدونه ! . . دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد . ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية . ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين ؛ إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون ! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون . فما هو بدين القاعدين !

على أن( البلاغ )يظل هو قاعدة عمل الرسول ، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين . وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد . فإنه متى صح ، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية . . أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى ؛ واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده ، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره . . فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله ، المبلغين التبليغ الصحيح ، بالإعراض والتحدي ، ثم بالإيذاء والمكافحة . . . ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في حينها ، نتاجا طبيعيا للتبليغ الصحيح لا محالة : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ، وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .

هذا هو الطريق . . . وليس هنالك غيره من طريق !

ثم نقف من السورة أمام معلم آخر ، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه " الإنسان " وحركته وبين تحديد مآله ومصيره ؛ وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال حركته بنفسه ؛ وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص . . ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة الإسلامية في هذه القضية الخطيرة . . وهذه نماذج منها كافية :

( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ، وما لهم من دونه من وال ) . .

( للذين استجابوا لربهم الحسنى ، والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ، أولئك لهم سوء الحساب ، ومأواهم جهنم وبئس المهاد ) . .

( قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) . .

( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ? ! ) . .

( بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .

وواضح من النص الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم ، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرا شعوريا وعمليا . فإذا غير القوم ما بأنفسهم اتجاها وعملا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم . . فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد ، ولم يعصمهم من الله شيء ، ولم يجدوا لهم من دونه وليا ولا نصيرا .

فأما إذا هم استجابوا لربهم ، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة ، فإن الله يريد بهم الحسنى ، ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا ، فإذا لم يستجيبوا أراد بهم السوء ، وكان لهم سوء الحساب ، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه - غير مستجيبين - يوم الحساب !

وواضح من النص الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم ؛ وأن مشيئة الله بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه .

أما النص الثالث فإن مطلعه يتحدث عن طلاقة مشيئة الله في إضلال من يشاء . ولكن عقب النص : ويهدي إليه من أناب . . . الخ يقرر أن الله - سبحانه - يقضي بالهدى لمن ينيب إليه ؛ فيدل هذا على أنه إنما يضل من لا ينيب ومن لا يستجيب ، ولا يضل منيبا ولا مستجيبا . وذلك وفق وعده سبحانه في قوله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . فهذه الهداية وذلك الإضلال هما مقتضى مشيئته سبحانه بالعباد . هذه المشيئة التي تجري وتتحقق من خلال تغيير العباد ما بأنفسهم ، والاتجاه إلى الاستجابة أو الإعراض .

والنص الرابع يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا . . وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، أو لقهرهم على الهدى . ولكنه - سبحانه - شاء أنيخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال ؛ ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال - حاشاه ! - إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان .

أما النص الخامس فيقرر أن الذين كفروا زين لهم مكرهم وصدوا عن السبيل . . وأخذ أمثال هذا النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر والاختيار . . أما أخذه مع مجموعة النصوص - كما رأينا - فإنه يعطي التصور الشامل : وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل ، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة لله . أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم بالتزيين والصد والإضلال .

وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل . . ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم . فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله ؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص ؛ تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . .

وليست هنالك آلية في نظام الكون كله ، ولا حتمية أسباب تنشيء بذاتها آثارا . فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر . . وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه ، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث : ( وكل شيء عنده بمقدار ) .

وهذا التصور - كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة - يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني ؛ بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله . فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته . . وما أثقلها من تبعة ! وما أعظمها كذلك من كرامة !

وفي السورة كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين ، على فساد الكينونة البشرية ، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها ، واختلال طبيعتها وخروجها عن سوائها . فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية ، غير مطموسة ولا معطلة ولا مشوهة ؛ ثم يعرض عليها هذا الحق ، ويبين لها بالصورة التي بينها المنهج القرآني ؛ ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام . والفطرة الإنسانية بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها ؛ فإذا صدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة فيه تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى ؛ وتجعله بذلك مستحقا للضلال ، ومستحقا للعذاب ، كما قال الله سبحانه في السورة الأخرى ؛ ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) . .

وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمى وانطماس بصيرة ، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى ، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها ؛ وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون :

أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهدالله ولا ينقضون الميثاق ، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . . ) . .

( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب . الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) . .

( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين . يغشي الليل النهار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) . .

وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم - بشهادة الله سبحانه - عمي . وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون . وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب ، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله ، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة ، فتسكن وتستريح .

وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله ، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله . . فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة . وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها ، وهو يسبح بحمد ربه ؛ وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره .

وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا - بشهادة الله سبحانه - فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله ، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله . . لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى ! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان ؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته ؛ أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه . .

وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر - غير الإسلامي - بجملته - فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله [ ص ] بقوله : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " . فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله ، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق . . فهو أعمى بشهادة الله سبحانه . . ولن يرد شهادة الله مسلم . . ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم ! ! !

إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد ؛ وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم . . وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها ؛ إن لم يكن هو رد شهادة الله - سبحانه - وهو الكفر البواح في هذه الصورة !

وأعجب العجب أن ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون ؛ ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه : إنهم عمي . ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون !

إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل ، وجزم لا يحتمل التميع ، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة . .

فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه . والله غني عن العالمين !

وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم ، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته ؛ وهو يعلم أن ما جاءه به محمد [ ص ] هو الحق ؛ وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق( أعمى ) . ثم يتبع هذا الأعمى ، ويتلقى عنه ، بعد شهادة الله سبحانه وتعالى . .

وأخيرا نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين . .

إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير . فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة ، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . . هم الذين يفسدون في الأرض ؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض ، وتزكو بهم الحياة :

أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . . . .

( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) . .

إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد [ ص ] هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ؛ ويقيمون الصلاة ؛ وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .

إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ؛ التي تسير على هدى الله وحده ؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد [ ص ] هو الحق وحده ؛ والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .

إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد [ ص ] هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية ! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله ، تضعهي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله . .

وآية هذا الذي نقوله - استمدادا من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! . . وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! . . إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ؛ ولا تلتزم - من ثم - بعهد الله وشرعه ؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .

إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله ؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ؛ وكل وضع كذلك سياسي ، غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد ، الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .

ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله ، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .

إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي !

ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله ؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط ؛ ولم ترتفع " إنسانيتها " قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .

هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة ، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها ، ولكنها تشير إليها .

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .