الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيۡكُمۡ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ} (24)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فقال الملؤا} يعني: الأشراف {الذين كفروا من قومه ما هذا} يعنون نوحا {إلا بشر مثلكم} ليس له عليكم فضل في شيء فتتبعونه {يريد} نوح {أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل} يعني: لأرسل {ملائكة} إلينا فكانوا رسله {ما سمعنا بهذا} التوحيد {في آبائنا الأولين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فقالت جماعة أشراف قوم نوح، الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوه، لقومهم: ما نوح أيها القوم إلاّ بشر مثلكم، إنما هو إنسان مثلكم وكبعضكم، يريد أن يصير له الفضل عليكم، فيكون متبوعا وأنتم له تبع، ولو شاء الله أن لا نعبد شيئا سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدّي إليكم رسالته. "ما سَمِعْنا بِهَذَا "الذي يدعونا إليه نوح من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهي آباؤهم الأوّلون.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} هذا الذي قالوا، هو متناقض، لأنهم قالوا: إنه {بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} بما ادعى من الرسالة والإجابة إلى ما دعاهم، ثم هم أعني الرؤساء منهم والقادة ادعوا لأنفسهم الفضل بما استبقوا هم السفلة، وطلبوا منهم الموافقة لهم والإجابة، وهم بشر أمثالهم، فذلك تناقض في القول. ثم أقروا بتفضيل بعض الخلق على بعض، وعرفوا قدرة الله على ذلك حين قالوا: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} فمن قدر على تفضيل الملائكة على البشر قدر على تفضيل بعض البشر على بعض.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أي: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر.

{مَّا سَمِعْنَا بهذا} يدلّ على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة، أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغي، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام.

الشبهة الأولى: قولهم: {ما هذا إلا بشر مثلكم} وهذه الشبهة تحتمل وجهين: أحدهما: أن يقال إنه لما كان مساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض، امتنع كونه رسولا لله، لأن الرسول لابد وأن يكون عظيما عند الله تعالى وحبيبا له، والحبيب لابد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة، فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة. والثاني: أن يقال هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته، فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبرا عنهم {يريد أن يتفضل عليكم} أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله تعالى: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض}.

الشبهة الثانية: قولهم: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود، ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم، فالخلق ينقادون إليهم، ولا يشكون في رسالتهم، فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا البتة.

الشبهة الثالثة: قولهم: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى، أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله، وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواما لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها.

قال القاضي: يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولا مبعوثا، لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة، ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده، لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فقال الملأ} -وهم السادة والأكابر منهم -: {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} يعنون: يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وهو بشر مثلكم. فكيف أوحي إليه دونكم؟ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً} أي: لو أراد أن يبعث نبيًّا، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا! {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي: ببعثة البشر في آبائنا الأولين. يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم الماضية.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{فَقَالَ الْمَلَأُ} من قومه الأشراف والسادة المتبوعون -على وجه المعارضة لنبيهم نوح، والتحذير من اتباعه -: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: ما هذا إلا بشر مثلكم، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة، ليكون متبوعا، وإلا فما الذي يفضله عليكم، وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة لا زالت موجودة في مكذبي الرسل، وقد أجاب الله عنها بجواب شاف، على ألسنة رسله كما في قوله: {قالوا} أي: لرسلهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ* قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته، فليس لكم أن تحجروا على الله، وتمنعوه من إيصال فضله علينا. وقالوا هنا: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة، فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملائكة، فإنه حكيم رحيم، حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين، لأن الملك لا قدرة لهم على مخاطبته، ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل، ثم يعود اللبس عليهم كما كان. وقولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي بإرسال الرسول {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا علما بما تقدم، فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم، وعلى تقدير أنه لم يرسل فيهم رسولا، فإما أن يكونوا على الهدى، فلا حاجة لإرسال الرسول إذ ذاك، وإما أن يكونوا على غيره، فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم، ولا شعروا بها، ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم سببا لكفرهم للإحسان إليهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة؛ ولا يتدبرون شواهدها، ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم، ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات.. فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود، ليتحدثوا عن شخص نوح... من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها، وتعمي عليهم عنصرها، وتقف حائلا بين قلوبهم وبينها؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم، يريد أن يتفضل عليهم، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم! وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون أنه يعمل لها، ويتوسل إليها بدعوى الرسالة.. في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس؛ ويستكثرون أن يرسل الله رسولا من البشر، إن يكن لا بد مرسلا. (ولو شاء الله لأنزل ملائكة)..

ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفخة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى؛ وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه، ويحملونه إلى إخوانهم من البشر، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء.

وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر:

(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)..

ومثل هذا يقع دائما عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب. فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها. إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن "سابقة "يستندون إليها؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها!.

وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن أن يكون ثانية. فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة، وتقف حركتها، وتتسمر خطاها عند جيل معين من (آبائنا الأولين)!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين: أحدهما: أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح. والثاني: ليُفاد أنهم أسرعوا بتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر. ووصفُ الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نُهوض له ولكنهم روّجُوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم...

وقول الملأ من قومه: {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} خاطب به بعْضُهُم بعضاً إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشَّارة، أي فقال عظماء القوم لعامتهم...

{يُريد أن يتفضل عليكم}... والتفضل: تكلف الفَضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال... (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) ولما كان السماع المنفي ليس سماعاً بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عُدّي فعل {سمعنا} بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء، وهو مجادلة سفسطائيَّة إذ قد يكون انتفاءُ العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحاً فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

كانت إجابتهم إجابة من فوجئ بأمر لم يألفه ولم يعرفه، وكذلك كانت إجابة أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا أولا {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}، كذلك قال أهل مكة، قالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}... وهكذا نجد رد قوم نوح عليه السلام يشبهه تماما رد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت نتيجته أن أهلك الله تعالى الكافرين من قوم نوح، وكان عليهم أن يتوقعوا مثل ما نزل بقوم نوح، لولا رحمة الله، عسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، بل أن يكون منهم من ينصر الحق، ويجاهد مع المجاهدين.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الملأ: من الملء يعني: الشيء الذي يملأ الشيء، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتهم، ومن ذلك قولهم: فلان ملء العين، أو ملء السمع والبصر، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحسن مبلغا: فلان قيد العيون يعني: حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شدة حسنه كأنه قيد بصرك نحوه. أما في المقابل فيقولون: فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود. إذن: الملأ: هم الذين يملأون صدور المجالس أبهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصبوا ضده وواجهوه؟. قالوا: لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق- تبارك وتعالى- ينزل منهجا على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يبلغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عدة صور: فمنهم من يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. ومنهم من يخرج على منهج ربه خروجا لا رجعة له ولا زجر، وهذا نسميه بلغتنا (فاقد) يعني: لم يعد له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أن يتصدى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظل المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظل على مكانته في المجتمع لتمادى في غيه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعم الفساد وتشيع الفوضى. ألا ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني: عائلة القاتل، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدت عنده بوادر الاعتداء، لأنهم جميعا سيحملون هذه التبعة. ونقول: خص الملأ بالذات، لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أن يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم، لذلك هم أول من يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.. (27)} [هود]. فهؤلاء الذين يسمونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخلق والدين والقيم، فما إن تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم، لذلك يكونون أول من يؤمن. وإن جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضا لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليمهم، فلا بد أن يواجهوه ويعاندوه. ومعنى: {الذين كفروا من قومه} كفروا: يعني جحدوا وجود الله {ما هذا إلا بشر مثلكم} فأول شيء صدهم عن الرسول كونه بشرا، إذن: فماذا كنتم تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94)} [الإسراء]: ولا بد في الرسول أن يكون من جنس المرسل إليهم، ليصح أن يكون له أسوة، فيقلدوه ويهتدوا به، وإلا لو جاء الرسول ملكا فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه ملك لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل، وليست لديه شهوة، ولا مقومات المعصية؟ ولنفرض أن الله نزل عليكم ملكا، فكيف ستشاهدونه وتتلقون عنه؟ لا بد- إذن- أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقي عنه، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل، لذلك قال سبحانه: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)} [الأنعام] وتظل الشبهة باقية. إذن: من الحمق أن نقول بأن يكون الرسول ملكا. أما قولهم: {بشر مثلكم} نعم، هو بشر، لكن ليس كمثلكم، فأنتم كاذبون في هذه المثلية، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي... ويقول تعالى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد (6)} [فصلت]: ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بشر يوحى إليه، وما بشريته إلا للإيناس والإلف. ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح: {يريد أن يتفضل عليكم} يتفضل: يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعا وهم تابعون {ولو شاء الله} يعني: لو شاء أن يرسل رسولا {لأنزل ملائكة} أي: رسلا، وقد رد الله تعالى عليهم هذا القول، فقال تبارك وتعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)} [الإسراء]. ثم يقولون: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} المراد بهذا: يعني أن يأتي من يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام، ولم يأت من يقول لنا هذا الكلام مثل نوح. وهذا دليل على أنهم مقلدون للآباء، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)} [الزخرف]. ولو تأملنا حال المجتمعات، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء، كيف؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له رأيه وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الابن عن أبيه، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل، فالولد يختار مثلا الكلية التي يرغبها، الملابس التي يحبها، وإن خالفت رأي أبيه، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إن لزم الأمر، وهذا موجود في كل الأجيال. إذن: لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأي مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يلبي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم، وتتخذون التقليد فيما يقلل تكليفكم، لأن التكليف سيقيد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرافات، لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله... فقولهم: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}، وقولهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة (23)} [الزخرف]: هم كاذبون أيضا في هذه المقولة، لأنهم لو صدقوا لقلدوهم في كل شيء فيما لهم وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق. لذلك الحق- تبارك وتعالى- يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وبأساليب مختلفة، منها قوله سبحانه: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.. (170)} [البقرة]. لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف، وإن كانت العبادة: طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فما أسهل عبادة الأصنام، لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج، وليس معها تكاليف، فبأي شيء أمرك الصنم؟ وعن أي شيء نهاك؟ وماذا أعد من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعد من عقاب لمن عصاه؟ إذن: معبود بلا منهج وبلا تكاليف، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم. ألم يقولوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (3)} [الزمر]: فهذا حمق وسفه وجهل، لأن الكلام منطقيا لا يستقيم، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج، وليس لهم تكاليف، والعبادة طاعة عابد لمعبود؟. إذن: ما هو إلا خواء وإفلاس عقدي، لذلك يرد الحق- تبارك وتعالى- عليهم فيقول سبحانه: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)} [البقرة]. وفي موضع آخر يقول- سبحانه وتعالى- عنهم: {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.. (104)} [المائدة]: وهذه أبلغ من سابقتها، لأنهم يصعدون كفرهم ويصرون عليه، فقولهم: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا (170)} [البقرة]: فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق، ويخالفون الآباء. لكن هنا {حسبنا.. (104)} [المائدة]: يعني: كافينا، ولن نغيره ولن نحيد عنه، لذلك يأتي تذييل كل آية بما يناسبها، ففي الأولى قال تعالى ردا عليهم: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا (170)} [البقرة]، وفي الأخرى قال ردا عليهم: {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا.. (104)} [المائدة]. فذكر العقل في الأولى، لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه، وذكر في الأخرى العلم، لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله، وعقل العلم أيضا، فالعلم- إذن- أوسع من العقل، لذلك ذكره مع قولهم {حسبنا.. (104)} [المائدة] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر. كما نلاحظ عليهم في قولهم: {ما سمعنا بهذا}: أن الغفلة قد استحكمت فيهم، لأن نوحا عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام، فبينهما فترة طويلة، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي، يقول:"اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} فكيف يمكن أن يكون نبياً مرسلاً؟ وهل يمكن للبشر أن يصلوا إلى هذه الدرجة؟! إننا لا نؤمن بذلك، فهو ككثير من الطامحين الذين يودون الوصول إلى مواقع اجتماعية متقدّمة في مجتمعهم من خلال الإيحاء للآخرين بأن لهم صفات خاصة أودعها الله بهم ليسيطروا على الناس من خلالها، فهو {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} ليكون له الميزة والفضل عليكم، فيرأس الناس من موقع النبوّة، {وَلَوْ شاء اللَّهُ لأنزَلَ ملائكة} فالملائكة أقرب إلى الله، وبذلك يكونون أقرب إلى هذا المركز الخطير، فهل يمكن أن يستبدلهم بمثل هذا الإنسان الذي لا يتميز عن الناس بأية صفةٍ من الصفات، {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبَآئِنَا الأولين}، وهم بالنسبة لنا المصدر الأوثق للمعلومات الدينية، التي نلتزمها كعقيدةٍ وسلوكٍ، فلم يرد منهم أيّ شيءٍ من هذا القبيل.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم). وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنساناً فاتّهموه بالسلطوية، وحديثه عن الله والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثمّ أضافوا (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) ولإتمام هذا الاستدلال الخاوي قالوا: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين). إلاّ أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثرّ في معنويات هذا النّبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى الله، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على امتياز على الآخرين، أو أن يتسلّط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أُخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا: إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به حتّى حين).