روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيۡكُمۡ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ} (24)

{ فَقَالَ الملؤا } أي الأشراف { الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } وصف الملأ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه ، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول : { مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] وقال الخفاجي : يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافاً ؛ وأما قول : { مَا نَرَاكَ } [ هود : 27 ] الخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف ، وأياً ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي في الجنس والوصوف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة ، ووصفوه بقوله سبحانه : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } إغضاباً للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراءً لهم على معاداته ، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل : يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، وقيل : صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل : يريد كمال الفضل عليكم { وَلَوْ شَاء الله لأنزل ملائكة } بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلاً من الملائكة ، وإنما قيل { لأنزل } لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شاء لَهَدَاكُمْ } [ النحل : 9 ] ولا بأس في ذلك ، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمراً غريباً وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقاً فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن ، وعلى هذا يجوز أن يقال : التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم : { اعبدوا الله } [ هود : 50 ] وكذا قوله تعالى : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ } بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضاً وذلك بناءً على أن { هذا } إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام ، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول ، وقيل : الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ؛ ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد ، وأياً ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادئ دعوته عليه السلام كما ينبئ عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى : { فَقَالَ الملا } الخ .

وقيل : { هذا } إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته ، وقيل : إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبياً لكان له ذكر في آبائنا الأولين ، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام ، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل : بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر ، وعليهما أيضاً يكون قولهم :

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ( 25 )