الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم... عن ابن عباس، قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس، فوجد من يهود ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم! فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين! فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْتَ؟» فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيما، زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ردّا عليه وتصديقا لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: {لتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}...

فتأويل الآية إذا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود: إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم وقتلهم أنبياءهم بغير حقّ...

فإن قال قائل: كيف قيل: {وَقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ} وقد ذكرت الآثار التي رويت، أن الذين عنوا بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ فَقِيرٌ} بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من أولئك أحد قتل نبيا من الأنبياء، لأنهم لم يدركوا نبيا من أنبياء الله فيقتلوه؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما قيل ذلك كذلك لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء، وكانوا منهم، وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته، فأضاف جلّ ثناؤه فعل ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة، ونحلة واحدة، وبالرضا من جميعهم فعل ما فعل فاعل ذلك منهم على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل.

{وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيكُمْ وأنّ اللّهَ لَيْسَ بِظلاّمٍ للْعَبيِد}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ونقول للقائلين بأن الله فقير ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حقّ يوم القيامة: ذوقوا عذاب الحريق، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، وإنما الحريق صفة لها، يراد أنها محرقة، كما قيل: «عَذَاب ألِيمٌ» يعني: مؤلم، و«وجيع» يعني: موجع.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

في الآية دلالة على أن الرضا بقبيح الفعل يجري مجراه في عظم الجرم، لأن اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولوا ذلك في الحقيقة، وإنما ذموا به، لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإثم. وقوله: (سنكتب ما قالوا) قيل في معناه قولان: أحدهما -إنه يكتب في صحائف أعمالهم، لأنه أظهر في الحجة عليهم وأجرى أن يستحيوا من قراءة ما أثبت من فضائحهم- على قول الجبائي -. الثاني -قال البلخي سيحفظ ما قالوا حتى يجازوا به، أي هو بمنزلة ما قد كتب في أنه لا يضيع منه شيء، والأول أظهر.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعدّ له كفاءه من العقاب. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} في صحائف الحفظة. أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فإن قلت: كيف قال: {لَّقَدْ سَمِعَ الله} ثم قال {سَنَكْتُبُ} وهلا قيل: ولقد كتبنا؟ قلت: ذكر وجود السماع أوّلاً مؤكداً بالقسم ثم قال: سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء. وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم. وأنهم أصلاء في الكفر ولهم فيه سوابق، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... سمع الله قول هؤلاء المجازفين لم يفته ولم يخف عليه فهو سيجزيهم عليه، فهذا التعبير يتضمن التهديد والوعيد كما يتضمن قوله "سمع الله لمن حمده "البشارة والوعد بحسن الجزاء وكما يتضمن قوله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) [المجادلة: 1] مزيد العناية وإرادة الإشكاء والإغاثة، ذلك بأن قولك سمعت ما قال فلان يشعر بما لا يشعر به قولك علمت بما قال: والسمع هو العلم بالمسموعات خاصة بوجه خاص. وذهب بعض من كتب في علم الكلام إلى أن سمع الباري تبارك وتعالى يتعلق بجميع الموجودات، لا يختص بالكلام أو بالأصوات، وهو رأي تنكره اللغة ولا يعرفه الشرع وليس للرأي أو العقل أن يتحكم في صفات الله تبارك وتعالى بنظرياته وأقيسته. ومن فائدته التعبير بسمع الله لكلام عباده مراقبتهم له في أقوالهم، ولا تتحقق هذه الفائدة بخصوصها على رأي ذلك المتكلم.

(سنكتب ما قالوا) وعيد لهم على ذلك القول قالوه استهزاء بالقرآن. قرأ حمزة "سيكتب" بالياء المضمومة أي سيكتب قولهم هذا ويثبت عند الله تعالى فيعاقبهم عليه لأنه لا يفوته. وقرأ الباقون بالنون.

قال الأستاذ الإمام قال مفسرنا كغيره أي نأمر بكتابته وغفلوا عن قوله: (وقتلهم الأنبياء بغير حق) فإنه كان من سلفهم فما معنى التعبير عن كتابته بصيغة الاستقبال؟ لا بد من تفسيره بوجه يصح في الأمرين، ولكن ضعف المسلمين في لغة القرآن هو الذي أوقعهم في هذا الضعف في الفهم والضعف في الدين وتبع ذلك الضعف في كل شيء. ولا يقال – كما زعم بعض المجاورين- إن الفعل إذا أسند إلى الله تعالى يتجرد من الزمان فإن الكلام في اختلاف التعبير. والمعنى الصحيح لهذه الكلمة "سنعاقبهم على ذلك حتما" فإن الكتابة هنا عبارة عن حفظه عليهم، ويراد به لازمه وهو العقوبة عليه. والتوعد بحفظ الذنب وكتابته وإرادة العقوبة عليه شائع مستعمل حتى اليوم فلا يحتاج إلى دقة نظر. ولفظ الكتابة آكد من لفظ الحفظ لما فيه من معنى الاستتباب وأمن النسيان. وإنما ضم قتل الأنبياء- وهو أفظع جرائم هذا الشعب- إلى الجريمة التي سيق الوعيد لأجلها لبيان أن مثل هذا الكفر والتدهور ليس بدعا من أمرهم فإنه سبق لهم أن قتلوا الهداة المرشدين بعد ما جاءوهم بالبينات، فهم يجرون في هذا على عرق وليس هو بأول كبائرهم، وللإيذان بأن الجريمتين سيان في العظم واستحقاق العقاب (كما قال صاحب الكشاف).

وأما إضافة القتل إلى الحاضرين فقد تقدمت حكمته في سورة البقرة ويشير إليه قول المفسرين إنهم يعدون قتلة لرضاهم بما فعله سلفهم وهذا تحويم حول المعنى الذي أوضحناه هناك، وهو أن الأمم متكافلة في الأمور العامة إذ يجب على الأمة الإنكار على فاعل المنكر من أفرادها وتغييره أو النهي عنه لئلا يعشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها أو عادة من عادتها فتستحق عقوبته في الدنيا كالضعف والفقر وفقد الاستقلال، كما تستحق عقوبته في الآخرة بما دنس نفوسها ولذلك لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بما عصوا وكانوا يعتدون وبين سبب ذلك بقوله: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) [الأنعام: 82].

ذلك بأن من أقر فاعل المنكر فلم ينهه ولم يسخط عليه تكون نفسه مشاكلة لنفسه تأنس به ثم لا يلبث أن يفعل المنكر ولو بعد حين ما لم يكن عاجزا عن ذلك بسبب من الأسباب الحسية، كضعف الجسم أو قلة المال أي أن مثل هذا لا يترك المنكر لأنه رذيلة تدنس نفس فاعلها فيكون بعيدا من الخير غير مستحق لرضوان الله عز وجل. قال الأستاذ الإمام: وثم وجه آخر يجعل إسناد المنكر إلى مقره والراضي به إسنادا قريبا من الحقيقة وهو أن عدم النهي عن المنكر هو السبب في انتشاره وشيوعه لأن الميالين إلى المنكر لو علموا أن الناس يمقتونهم ويؤاخذونهم عليه لما فعلوه إلا ما يكون من الخلس الخفية. ولذلك كان الساكت على المنكر شريك الفاعل في الإثم- قال- كل هذا ظاهر فيمن يفعل المنكر في زمنه ولا ينكره، وأما من يقع المنكر من قومهم قبل زمنهم كاليهود الذين نزلت هذه الآية وأمثالها فيها كقوله "فلم قتلتموهم "؟ فهم يتفقون مع من سبقهم في علة الجريمة ومبعثها من النفس وهو عدم المبالاة بالدين وقد كان هذا الخلف متفقين مع من سبقهم في الأخلاق والسجايا وينتسبون إليهم انتساب حسب وتشرف أي فهم جديرون بأن يكونوا على شاكلتهم.

وأقول: إن المتأخر ربما كان أضرى بالشر من المتقدم لتمكن داعية الشر من نفسه بالوراثة والقدوة جميعا. وقد حاول غير واحد من اليهود قتله صلى الله عليه وسلم كما كان آباؤهم يفعلون بل هم الذين قتلوه، فإنه مات بالسم الذي وضعته له اليهودية في الشاة بخيبر فقد ورد في الحديث أنه قال لعائشة في مرض موته" يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري "رواه البخاري في صحيحه. وفي رواية لغيره من حديث أبي هريرة" ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري".

الأستاذ الإمام: إن الله تعالى نبهنا بهذا الضرب من التعبير إلى أن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم بعين البصيرة ويطبقه على الشريعة فيستحسن منه ما استحسنت ويستقبح ما استهجنت ويسجل على المسيء من سلفه إساءته وينفر منها، فإنه يعد عند الله تعالى مثله وشريكا له في إثمه ومستحقا لمثل عقوبته فعليكم باتخاذ الوسائل لإزالة المنكرات الفاشية ولا بد في ذلك من بذل الجهد، وإعمال الروية والفكر، وما علينا الآن في مثل هذه البلاد، إلا الحيلة في بذل النصح والإرشاد، بأي ضرب من ضروبه، وكل أسلوب من أساليبه.

(ونقول ذوقوا عذاب الحريق) وقرأ حمزة "ويقول"، قال الأستاذ الإمام: الذوق عبارة عن الشعور بالألم أو ضده فمعنى ذوقوا تألموا. أما كيفية القول فلا نبحث فيها وإنما نعلم أن الله تعالى يوصل هذا المعنى إليهم.

أقول: وزعم بعض المستشرقين أن هذا الاستعمال لم يكن معروفا عند العرب قبل القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه من التوراة. وهو زعم باطل وبمثله يستدلون على اقتباس النبي من كتبهم، فقد روي أن أبا سفيان قال لما رأى حمزة عليه رضوان الله مقتولا (ذق عقق) أي ذق عاقبة إسلامك أيها العاق لدين آبائك ولمن ثبت عليه من قومك فلم يدخلوا في الإسلام. نعم إن أصل الذوق وهو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام ثم توسعوا فيه فاستعملوه في غير ذلك من المحسوسات كقولهم (ذقت القوس) إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها...

ومن هذا القبيل استعماله في معرفة جيد الشعر وأحاسن الكلام." وعذاب الحريق "معناه عذاب هو الحريق.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال -الذي آتاهم الله من فضله- فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله -وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه- وقالوا في وقاحة: ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا. ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة؟! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله:

(لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء. سنكتب ما قالوا! وقتلهم الأنبياء بغير حق، ونقول ذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد).

وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة. ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا.. ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق:

(سنكتب ما قالوا).. لنحاسبهم عليه، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل.. وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة -وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه- فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم:

(وقتلهم الأنبياء بغير حق).. وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام.. وهم يزعمون أنهم قتلوه، متباهين بهذا الجرم العظيم..!

(ونقول ذوقوا عذاب الحريق).. والنص على "الحريق "هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه. ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه.. جزاء على الفعلة الشنيعة: قتل الأنبياء بغير حق. وجزاء على القولة الشنيعة: إن الله فقير ونحن أغنياء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف جملة {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات، والذين قالوا ذلك هم اليهود، كما هو صريح آخر الآية في قوله: {وقتلهم الأنبياء بغير حق}، وقائل ذلك: قيل هو حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ اليهودي، حَبر اليهود، لمّا سمع قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض اللَّه قرضاً حسناً} [البقرة: 245] فقال حُيَيّ: إنّما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ، وقيل: قاله فِنحَاص بن عَازورَاء لأبي بكر الصديق بسبب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر إلى يهود قَيْنُقاع يدعوهم، فأتى بيت المِدْرَاس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حَبْرِهم، فدعاه أبو بكر، فقال فنحاص: ما بنا إلى الله من حاجة، وإنّه إلينا لفقير ولو كان غنيّاً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهمّ بقتله، فنزلت الآية. وشاع قولهما في اليهود.

وقوله: {لقد سمع الله} تهديد، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر، ولذلك قال تعالى: {لقد سمع} المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله: {سنكتب ما قالوا}. والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات، وهذا بعيد، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد. فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة. فعلى الأول يكون وعيداً وعلى الثاني يكون تهديداً.

وقرأ الجمهور {سنكتب ما قالوا وقتلَهم} بنون العظمة من (سنكتب) وبنصب اللام من (قتلهم) على أنّه مفعول (نكتب) و (نقول) بنون. وقرأه حمزة: سيُكْتب بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية مبنيّاً للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى، وبرفع اللام من (قتلُهم) على أنه نائب الفاعل. (ويقول) بياء الغائب، والضمير عائد الى اسم الجلالة في قوله: {إن الله}.

وعطف قوله: {وقتلهم الأنبياء بغير حق} زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا: {إن الله فقير ونحن أغنياء} بل هم من أسلافهم، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم، وهي الاجتراء على الله ورسله، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل.

قال الحجّاج في خطبته بعد يوم دَيْر الجَماجم يخاطب أهل العراق: ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمَرْتُم الشرّ واستبطنتم الكفر إلى أن قال: ثمّ يوم الزاوية وما يوم الزاوية.. إلخ، مع أنّ فيهم من مات ومن طرأ بعد.

وقوله: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} عُطف أثرُ الكتب عَلى الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح، {ونقول ذوقوا} وهْو أمر الله بأن يَدخلوا النار.

والذوق حقيقته إدراك الطُّعوم، واستعمل هنا مجازاً مرسلاً في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون « ذوقوا» استعارة.

وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ، وورد في القرآن كثيراً.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تقول الآية الأُولى (لقد سمع الله قول الّذين قالوا إِنّ الله فقير ونحن أغنياء).

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإِن الله قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإِنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جداً أو الأصوات العالية جداً: (لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء).

إِذن فلا فائدة ولا جدوى في الإِنكار، ثمّ يقول سبحانه: (سنكتب ما قالوا) أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.

ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة المادة».

بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول: (وقتلهم الأنبياء) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جداً وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد، فليست هذه هي المرّة الأُولى التي تستهزئ يهود برسول من الرسل، فإِن لهم في هذا المجال باعاً طويلا في التاريخ، وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي، فإِن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أنْ يقال في هذا المقام: إِن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية، فلماذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول كما أسلفنا أيضاً أنّ هذه النسبة إِنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود، ولهذا أشركوا في إِثمهم ووزرهم وفي مسؤوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمراً اعتباطياً غير هادف، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: (ذوقوا عذاب الحريق).