الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (15)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإن جاهدك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري مما لا تعلم أنه لي شريك، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي، "وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا "يقول: وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه فيما بينك وبين ربك ولا إثم. وقوله: "وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ" يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم... عن قتادة "وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ": أي من أقبل إليّ.

وقوله: "إليّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.

فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل ذلك أيضا، وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه، فكان معنى الكلام: "وَإذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" ولا تطع في الشرك به والديك "وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا" فإن الله وصّى بهما، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} أمر في الآية الأولى بالإحسان إليهما والبر لهما والطاعة، ثم بين أن لا في كل أمر يطاعان، ولا في جميع ما يأمران ويسألان يجابان، إنما يطاعان ويجابان في ما يؤذن لهما ويباح لهما، لا في ما لا يؤذن ولا يباح بحال، بل يؤمر بالخلاف لهما على انتفاء المعاداة فضلا أن يطاعا، ويجابا إلى ما يدعوان ويأمران، وإنما أمر بحسن المصاحبة لهما والمعروف في ما لم يكن في ذلك معصية الخالق حين قال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا}.

{واتبع سبيل من أناب إلي} جائز أن يكون تأويله: اتبع سبيلي وديني ولا تتبع غيري. ويحتمل أن اتبع سبيل من أناب، ورجع إلي، ولا تتبع سبيل من لم ينب، ولم يرجع إلي.

ثم أخبر برجوع الكل إليه: من رجع، وأناب إليه، ومن لم يرجع، ولم ينب إليه، على الوعيد حين قال: {ثم إلي مرجعكم}...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أي احْتِسَاباً، قال قتادة: تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا، وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله تعالى: {مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شيء} [العنكبوت: 42].

{مَّعْرُوفاً} صحابا، أو مصاحباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{واتبع سبيل من أناب إليّ}، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان، و {أناب} معناه، مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: {وإن جاهداك} أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك {على أن تشرك بي} وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة، وليست لقوة الكفار، فعبر فيها بلام العلة، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان، ولذلك حذر في الآية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال: {ما ليس لك به علم} إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول.

{واتبع} أي بالغ في أن تتبع {سبيل} أي دين وطريق {من أناب} أي أقبل خاضعاً {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لها اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولكن رابطة الوالدين بالوليد -على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة- إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما).. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته -وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم!- فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.

ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: (وصاحبهما في الدنيا معروفا) فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: (واتبع سبيل من أناب إلي) من المؤمنين (ثم إلي مرجعكم) بعد رحلة الأرض المحدودة (فأنبئكم بما كنتم تعملون) ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.

روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه [كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت]. وروي أنها نزلت في سعد بن مالك. ورواه الطبراني في كتاب العشرة -بإسناده- عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أما حرف {على} فهو أدلّ على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة: شدة السعي والإلحاح. والمعنى: إن ألحَّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما. وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعَوَا إلى الإشراك.

المعروف: الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن، أي صاحبْ والديْك صحبةً حسنة، وانتصب {معروفاً} على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل {صاحِبْهُما،} أي صِحاباً معروفاً لأمثالهما. وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر، وشمل ذلك أن يدعو الوَالدُ إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يُطاعَان إذا أمرَا بمعصية، وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منكراً للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه.

{ثم إلي مرجعكم} معطوفة على الجمل السابقة و {ثم} للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها، أي وعلاوة على ذلك كله إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون، وضمير الجمع للإنسان والوالدين، أي مرجع الجميع.

وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام. وفرع على هذا {فأنبئكم} الخ... والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة.

وجملة {ثم إليّ مرجعكم}... وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

"وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقد شأنهما، بحيث يعرف الابن حاجة أبويه، ويعطيهما قبل أن يسألا، فلا يلجئهما إلى ذلّ السؤال، وهذا في ذاته إحسان آخر... والحق تبارك وتعالى حين يقول بعد الوصية بالوالدين: "إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"... إنما لينبهنا أن البرّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لن ينسى لك ذلك، إنما سيكتب لك، وسيكون في ميزانك، لأنك أطعت تكليفي وأمري، وأدّيت، فلك الجزاء لأنك عملت عملا إيمانيا لا بدّ أن تثاب عليه...