تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واقصد في مشيك} لا تختل في مشيك، ولا تبطر حيث لا يحل.
{واغضض} يعني واخفض {من صوتك} يعني من كلامك يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي، والمنطق.
ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال عز وجل: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} أقبح الأصوات لصوت الحمير، لشدة صوتهن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: أمره بالتواضع في مشيه، ومنهم من قال: أمره بترك السرعة فيه...
قوله:"وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ" يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ"؛
فقال بعضهم: معناه: إن أقبح الأصوات... عن قتادة "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ "أي أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أوّله زفير، وآخره شهيق...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن أشرّ الأصوات... قال جابر: وقال الحسن بن مسلم: أشدّ الأصوات... قال ابن زيد، في قوله "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ" قال: لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إن أقبح أو أشرّ الأصوات، وذلك نظير قولهم، إذا رأوا وجها قبيحا، أو منظرا شنيعا: ما أنكر وجه فلان، وما أنكر منظره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واقصد في مشيك واغضض من صوتك} على الوجهين اللذين ذكرناهما:
أحدهما: على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت حقيقة المشي وحقيقة الصوت. والثاني: على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها في ما بين الناس.
{واغضض من صوتك} أي لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت. ولكن لينهم بالقول. وقال بعضهم: امش هينا لينا ناكس الرأس ناظرا حيث تمشي غير ناظر على ما لا يحل ولا يسع.
وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة في ما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله.
"إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ"... لأن الحمار إنما يصيح لحاجة نفسه وشهوته، وسائر أصحاب الأشياء إذ صاحوا إنما يصيحون لحاجة أهلها. فيقول: إنكم أذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، فلا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم، ولكن قوموا لله في ذلك.
والثاني: ما ذكرنا إذ خص صوت الحمير، لأنه ليس من صوت وفيه لذة ومنفعة غير صوت الحمير، فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة.
وقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ} فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع، كقوله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} [الحجرات: 3]، ورَفْعُ الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهارِ الاستخفاف بهم مذمومٌ، فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} فيه خمسة أوجه:
الثالث: اسرْع في مشيك، قاله يزيد بن أبي حبيب...
{وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ} أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة.
{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}... وفيه أربعة أوجه:
والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانوا في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل، فقال الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
يدل مفهومه على مدح الصوت الحسن. (الإحياء: 2/295)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَنكَرَ الأصوات} أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوئ الآداب: أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعار -وإن جعلوا حميراً وصوتهم نهاقاً- مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده...
لما قال: {ولا تمش في الأرض مرحا} وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدا فقال: {واقصد في مشيك} أي كن وسطا بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي؟ فنقول: نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه:
الأول: هو أن الإنسان لما كان شريفا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرا فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيا إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة...ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر.
الثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا إطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل} أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال.
{إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}...
أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو؟ نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه، بمعنى أشدها طاعة، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذا من نكر الشيء فهو منكر، وهذا أنكر منه، وعلى هذا فله معنى لطيف، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{واقصد في مشيك} أي: اعتدل فيه ولا تسرع إسراعا يدل على البطش والخفة، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واقصد في مشيك} لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان -قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: واقصد في مشيك.. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق! والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة. ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول.. شيئا من صوت هذا الحمير..!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
القصد: الوسط العَدل بين طرفين،و {اقْصِدْ في مشيك}: ارتكب القصد.
الغَضُّ: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غَضَّ بصره، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق، فغض الصوت: جعله دون الجهر. وجيء ب {مِن} الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه، أي بعضَ جهره، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالا لا نقيض فيه لطرفين، يعني: توسطا واعتدالا، هذا في المشي، {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ... أي: اخفضه وحسبك من الأداء ما بلغ الأذن.
{إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ... والبعض يفهم هذه الآية فهما يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشر الحمير بالغباء وبالذلة،... نهيق الحمار ليس منكرا من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه منكر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟ فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يعلمنا الحق سبحانه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110)} [الإسراء].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين: فالنهي عن «التكبّر» و «العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه.
أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة. والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.