الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (55)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فاصبر إن وعد الله حق} وذلك أن الله تبارك وتعالى وعد النبي، متى يكون هذا الذي تعدنا؟ يقولون ذلك استهزاء وتكذيبا بأنه غير كائن، فأنزل الله عز وجل يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم إياه بالعذاب، فقال: {فاصبر إن وعد الله حق} في العذاب أنه نازل بهم القتل ببدر، وضرب الملائكة الوجوه والأدبار، وتعجيل أرواحهم إلى النار، فهذا العذاب.

{واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار} يعني وصل بأمر ربك بالغداة، يعني صلاة الغداة، وصلاة العصر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"فاصْبرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد لأمر ربك، وانفذ لما أرسلك به من الرسالة، وبلّغ قومك ومن أُمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بحقيقة وعد الله الذي وعدك من نصرتك، ونصرة من صدّقك وآمن بك، على من كذّبك، وأنكر ما جئته به من عند ربك، وإن وعد الله حقّ لا خلف له وهو منجز له.

"واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ "يقول: وسله غفران ذنوبك وعفوه لك عنه.

"وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ" يقول: وصلّ بالشكر منك لربك "بِالْعَشِيّ" وذلك من زوال الشمس إلى الليل "وَالإبْكَارِ" وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله: {فاصبر} وجوها:.

...

...

...

الثالث: اصبر على أنواع ما يكيدون: من همّهم بقتله وضره وغير ذلك.

والرابع: اصبر على تبليغ الرسالة إليهم، ولا يُضجرنّك تكذيبهم إياك، ولا يمنعك ذلك عن تبليغها...

والخامس: اصبر، ولا تستعجل لهم العذاب قبل ميقاته؛ وذلك أن الرسل عليهم السلام كانوا لا يستعجلون العذاب ما لم يُؤذن لهم بذلك.

{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} جائز أن يكون ما ذكر في قوله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] باستغفاره إياه...

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} جائز أن يريد بالتسبيح نفس التسبيح، فإن كان كذلك فيكون ذكر العشيّ والإبكار ليس هو ذكر التوقيت له، ولكن ذكر الأوقات كلها: الليل والنهار كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] ليس يريد نفس الغداة والعشيّ خاصة دون غيرها من الأوقات، بل هما عبارة عن جميع الأوقات.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الصبرُ في انتظار الموعود من الحقِّ على حسب الإيمان والتصديق؛ فَمَنْ كان تصديقهُ ويقينُه أتمَّ وأقوى كان صبرُه أتم وأوفى.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: وهو -سبحانه- يُعْطِي وإن توَهَّمَ العبدُ أنه يُبْطِي.

ويقال الصبر على قسمين: صبرٌ على العافية، وصبرٌ على البلاء، والصبرُ على العافية أشدُّ من الصبر على البلاء، فصبرُ الرجال على العافية وهو أتمُّ الصبر.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك" تمسك من جوز الصغائر على الأنبياء بهذه الآية، فأمرهم بالاستغفار عن الصغائر.

ومن لم يجوز الصغائر على الأنبياء قال: إنه أمر بالاستغفار تعبدا؛ لينال بذلك رضا الله تعالى، ويقتدي به من يأتي بعده...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني أن نصرة الرسل في ضمان الله؛ وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار؛ ودم على عبادة ربك والثناء عليه {بالعشي والإبكار}

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي، والاشتغال بما ينبغي، والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدما عليه في الذكر، أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله {واستغفر لذنبك} والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به، ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل...

{ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك} فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه، وكقوله {رب احكم بالحق} من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق.

وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله {واستغفر لذنبك} من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك.

وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله {وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به.

والعشي والإبكار، المراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله، وأن لا يفتر اللسان عنه، وأن لا يغفل القلب عنه، حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلا في زمرة الملائكة، كما قال في وصفهم {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه، سبب عنه قوله:

{فاصبر} أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد:

{إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة.

ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بإنجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال:

{واستغفر لذنبك} أي وهو كل عمل كامل ترتقي منه إلى أكمل، وحال فاضل تصعد منه إلى أفضل، فيكون ذلك شكرا منك؛ لأن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك، وسماه ذنباً من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والإحسان؛ لأنه من أعظم مواقعها فقال: {وسبح} أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً {بحمد ربك} أي إثبات الإحاطة بأوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر. ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال: {بالعشي والإبكار} فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما، وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع، توجيهاً لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن كانوا معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة، ولكل من يأتي بعدهم من أمته، ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه: (فاصبر. إن وعد الله حق. واستغفر لذنبك، وسبح بحمد ربك، بالعشي والإبكار).. الإيقاع الأخير.. الدعوة إلى الصبر.. الصبر على التكذيب. والصبر على الأذى. والصبر على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان. والصبر على طباع الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك. والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال. والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد تجيء من جانب الأصدقاء قبل أن تجيء من جانب الأعداء! (فاصبر. إن وعد الله حق).. مهما يطل الأمد، ومهما تتعقد الأمور، ومهما تتقلب الأسباب. إنه وعد من يملك التحقيق، ومن وعد لأنه أراد.

وفي الطريق، خذ زاد الطريق: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار).. هذا هو الزاد، في طريق الصبر الطويل الشاق. استغفار للذنب، وتسبيح بحمد الرب. والاستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب، وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد. وتطهير للقلب وزكاة. وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب، فتعقبها الصورة الأخرى في واقع الحياة. واختيار العشي والإبكار... إما لأنهما آنان يصفو فيهما القلب، ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر الله. هذا هو المنهج الذي اختاره الله لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد. ولا بد لكل معركة من عدة ومن زاد...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عُطف على الأمر بالصبر الأمرُ بالاستغفار والتسبيح؛ فكانَا داخلين في سياق التفريع على الوعد بالنصر رمزٌ إلى تحقيق الوعد؛ لأنه أَمَرَ عقبه بما هو من آثار الشكر كنايةً عن كون نعمة النصر حاصلة لا محالة، وهذه كناية رمزية.

والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله تعالى المغفرة التي اقتضتها النبوءة، أي اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية، وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاستغفار تعبداً وتأدباً. وأمر بتسبيح الله وجُعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر؛ لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود، ولذلك لم يؤمر بالصبر لمَّا حصَل النصر في قوله: {إذا جاء نَصْرُ الله والفَتْحُ ورَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دِين الله أفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 1 -3] فإن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر...

وقد أخبر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في أول سورة الفتح، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبلَ أن يخبره بذلك، لطلب دوام المغفرة، وكان أمره به في سورة النصر بعدَ أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، للإرشاد إلى شكر نعمة النصر، وقد قال بعض الصحابة للنبيء صلى الله عليه وسلم في شأن عبادته: إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال؛ « أفلا أكون عبداً شكوراً». وكان يُكثر أن يقول في سجوده « سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي». بعد نزول سورة {إذَا جَاءَ نَصْرُ الله} [النصر: 1]. وبحكم السياق تعلم أن الآية لا علاقة لها بفرض الصلاة ولا بأوقاتها وإنما هي على نحو قوله تعالى: {فسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ واستَغْفره} في سورة [النصر: 3].