نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (55)

ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم : ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى ، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم ، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه ، سبب عنه قوله : { فاصبر } أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها ، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد : { إن وعد الله } أي الذي له الكمال كله { حق } أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك ، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة ، قال القشيري : الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق ، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى .

ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام ، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات ، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام ، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال : { واستغفر لذنبك } أي وهو كل عمل كامل ترتقي منه إلى أكمل ، وحال فاضل تصعد منه إلى أفضل ، فيكون ذلك شكرا منك لأن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك ، وسماه ذنباً من باب " حسنات الأبرار سيئات المقربين " .

ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال ، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال ، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال ، لافتاً القول إلى صفة التربية والإحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال : { وسبح } أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً { بحمد ربك } أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك ، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر . ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة ، وكان العشي أدل عليها ، قدمه فقال : { بالعشي والإبكار * } فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته ، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر ، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل على الصلوات الخمس - نقله البغوي . وذلك لأن العشى من زوال الشمس ، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .