جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك: أيها القوم، ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة لست بمَلك "يُوحَى إليّ "يوحي الله إليّ أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد، "فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ" يقول: فاستقيموا إليه بالطاعة، ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الآلهة والأوثان، "وَاسْتَغْفِرُوهُ" يقول: وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم، يتب عليكم ويغفر لكم.
وقوله: "وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُؤتَونَ الزّكاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ" يقول تعالى ذكره: وصديد أهل النار، وما يسيل منهم للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة. اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: الذين لا يعطون الله الطاعة التي تطهرهم، وتزَكّي أبدانهم، ولا يوحدونه وذلك قول يُذكر عن ابن عباس... عن ابن عباس، قوله: "وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُؤتُونَ الزّكاةَ" قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها، ولا يعطونها أهلها. وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ...
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدّون زكاة أموالهم وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة، وأن في قوله: "وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ" دليلاً على أن ذلك كذلك، لأن الكفار الذين عنوا بهذه الآية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله، فلو كان قوله: "الّذِينَ لا يُؤتُونَ الزّكاةَ" مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله: "وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ" معنى، لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالآخرة، وفي اتباع الله قوله: "وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ" قوله: "الّذِينَ لا يُؤتُونَ الزّكاةَ" ما ينبئ عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال.
وقوله: "وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ" يقول: وهم بقيام الساعة، وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم، من بعد بلائهم وفنائهم منكرون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: كأنه يقول لهم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أفهم، وأعقل ما {يوحى إلي} وأسمع ذلك، فأنتم في قولكم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ} لا عذر لكم في ذلك لأنه إنما يحجبكم عن ذلك، ويغطي قلوبكم عن فهم ذلك، الكفر الذي أنتم عليه والضلال الذي أنتم فيه فاتركوا ذلك حتى تفهموا، وتعقلوا، ما تُدعون إليه، وتُؤمرون به كما أفهم أنا، وأعقل، إذ {أنا بشر مثلكم} والله أعلم.
والثاني: يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} أي إنما {أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أمرت أن أبلّغكم {أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه} وإلا لو لم أومر بتبليغ الرسالة إليكم إنما إلهكم إله واحد لكنت أترككم وما أنتم عليه لقولكم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}.
على هذين الوجهين تأويل الآية، والله أعلم.
{وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي انتهوا عما أنتم عليه من الكفر والضلال ليغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر كقوله تعالى: {إن ينتهوا يُغفَر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].
ويحتمل: أي كونوا على حال بحيث يقبل استغفاركم وطلب تجاوزكم.
لما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عز وجل أوحى إلي وما أوحى إليكم، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم، ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي.
ثم بين أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين: العلم والعمل، أما العلم فالرأس والرئيس فيه معرفة التوحيد؛ ذلك لأن الحق هو أن الله واحد وهو المراد من قوله
{أنما إلهكم إله واحد} وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك، وجب علينا أن نعترف به وهو المراد من قوله {فاستقيموا إليه} ونظيره قوله {اهدنا الصراط المستقيم}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبروا بإعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال: {قل} أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي عليهم بالعجز: {إنما أنا بشر مثلكم} لا غير بشر مما لا يرى، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين: أحدهما فيه، والآخر فيما يدعو إليه، ونقض الأول، قال في الثاني: {يوحى إليّ} أي بطريق يخفى عليكم {إنما إلهكم} أي الذي يستحق العبادة {إله واحد} لا غير واحد، وهذا مما دلت عليه الفطر الأولى السوية، وقامت عليه الأدلة العقلية، وأيدتها في كل عصر الطرق النقلية، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى، أو يشكل فهمها، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله.
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله: {فاستقيموا} أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم.
{إليه} غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره.
ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال: {واستغفروه} أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً. ولما أمر بالخير، رغب فيه ورهب من ضده، فكان التقدير للترغيب: فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال: {وويل} أي سوأة وهلاك {للمشركين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين.. إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة، إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة. ثم يمضي في الطريق! ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل. فطريق الدعوة هو طريق الصبر. الصبر الطويل. وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة، ثم إبطاء النصر. بل إبطاء أماراته. ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
صيغة القصر في {إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم} تفيد قصراً إضافياً، أي أنَا مقصور على البشرية دون التصرف في قلوب الناس. وبيَّن مما تميَّز به عنهم على وجه الاحتراس من أن يتلقفوا قوله: {إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم} تلقفَ من حصَّل على اعتراف خصمه بنهوض حجته؛ بما يُثبت الفارق بينه وبينهم في البشرية، وهو مضمون جملة {يوحى إلَيَّ} وذلك للتسجيل عليهم إبطال زعمهم المشهور المكرر أن كونه بشراً مانع من إرساله عن الله تعالى لقولهم: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} [الفرقان: 7]، ونحوه مما تكرر في القرآن.
وحرصاً على إبلاغ الإرشاد إليهم بيَّن له ما يوحى إليه بقوله: {إنَّمَا إلهكم إله واحد} إعادة لِمَا أبلغهم إياه غيرَ مرة، شأنَ القائم بهدي الناس أن لا يغادر فرصة لإِبلاغهم الحق إلا انتهزها.
و {أنما} مفتوحة الهمزة، وهي أخت {إنما} المكسورة، ولا ينبغي التردد في كون أَنما المفتوحةِ الهمزة مفيدة القصرَ، وبذلك جزم الزمخشري في تفسير سورة الأنبياء.
فقوله: {أنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} إدماج للدعوة إلى الحق في خلال الجواب حرصاً على الهدْي.
وكذلك التفريع بقوله: {فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ} فإنه إتمام لذلك الإِدماج بتفريع فائدته عليه؛ لأن إثبات أن الله إله واحد إنما يقصد منه إفراده بالعبادة ونبذُ الشرك. هذا هو الوجه في توجيه ارتباط
{قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ} بقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أكِنَّةٍ} [فصلت: 5] الخ.
وموقع أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ} أنه نائب فاعل {يوحى إلَيَّ}، أيْ يوحَى إِليَّ معنى المصدر المنسبك من {أنَّمَا إلهكم إله واحِدٌ} وهو حصر صفة الله تعالى في أنه واحد، أي دون شريك.
ومماثلته لهم: المماثلة في البشرية فتفيد تأكيدَ كونه بشراً.
والاستقامة: كون الشيء قويماً، أي غير ذي عوج وتطلق مجازاً على كون الشيء حقاً خالصاً ليست فيه شائبة تمويه ولا باطل، والاستقامة هنا بهذا المعنى، وإنما عُدّي بحرف (إلى) لأنها كثيراً ما تعاقب اللام، يقال: ذهبتُ له وذهبت إليه، والأحسن أن إيثار (إلى) هنا لتضمين
(استقيموا) معنى: توجهوا؛ لأن التوحيد توجه، أي صرف الوجه إلى الله دون غيره، كما حكَى عن إبراهيم: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79]، أو ضمّن (استقيموا) معنى: أنيبوا، أي توبوا من الشرك كما دل عليه عطف {واستغفروه}، والاستغفار: طلب العفو عما فرط من ذنب أو عصيان وهو مشتق من الغَفْر وهو الستر.
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} وعيد للمشركين بسوء الحال والشقاء في الآخرة يجوز أن يكون من جملة القول الذي أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله فهو معطوف على جملة {إنَمَّا أنَا بَشَرٌ}، ويجوز أن يكون كلاماً معترضاً من جانب الله تعالى فتكون الواو اعتراضية بين جملة {قُلْ إنَّمَا أنَا بَشَرٌ} وجملة {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ} [فصلت: 9] أي أجبهم بقولك: أنا بشر مثلك يوحى إليّ ونحن أعتدنا لهم الويل والشقاء إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه، فيكون هذا إخباراً من الله تعالى.
وذكر المشركين إظهار في مقام الإِضمار ويستفاد تعليق الوعيد على استمرارهم على الكفر من الإِخبار عن الويل بكونه ثابتاً للمشركين... لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليَّة ما منه الاشتقاق، ولأن الموصول يؤذن بالإِيماء إلى وجه بناء الخبر.
(قل) أي: في الرد عليهم {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ..} يعني: لماذا تقفون مني ومن دعوتي هذا الموقف المعاند؟ لماذا تجعلون بيني وبينكم الحُجُب، وأنا واحد منكم عربي مثلكم تعرفون صِدْقي وتاريخي قبل ذلك بين ظهرانيكم.
ومن رحمة الله بكم أنْ أرسلني إليكم بشراً من جنسكم، ولم يرسل إليكم مَلكاً: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، وتعلمون سوابقه في الصدق والأمانة والعفة. ثم لو جاءكم مَلَكٌ، أكنتم تقتدون به على مَلَكيته؟ إن الأسوة لا تكون من المَلَك للبشر.
وتأمل الأدب والتواضع من رسول الله في قوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ..} يعني: لا كبرياء ولا تعالٍ، لكن فضلني الله عنكم بأنه {يُوحَىٰ إِلَيَّ..} ومضمون هذا الوحي {أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ..} وما دام يُوحى إليَّ فأنا مُبلِّغ لا ذنبَ لي تؤاخذونني عليه، أنا بشر مثلكم ومن أنفسكم لا أمتاز عليكم إلا بما ميَّزني الله به من الوحي.
لذلك نجد الحق سبحانه كثيراً ما يصحح لرسول الله ويُعدِّل له الحكم ويعاتبه، ورسول الله هو نفسه الذي يخبرنا بذلك، وهذا دليلٌ على أنه أمين في البلاغ عن ربه، لذلك يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46].
وقال: {أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ..} ولم يقل ربكم لأنهم يؤمنون بوجود الله الخالق الرازق، المشكلة عندهم في الإله المعبود، فالإله المعبود له أوامر ومطلوبات الإله يقتضي الطاعة في الأمر وفي النهي، فهم مسلمون بالربوبية مشركون في الألوهية، فأراد أنْ يبين لهم: {أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ..} ليس متعدداً، مرة يقول {إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ..} وفي سورة الإخلاص قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] واحد يعني ليس له ثانٍ، وأحد يعني أحد في ذاته غير مركّب من أشياء فهي تنفي التجزؤ.
وقد اتخذ الكفارُ آلهةً متعددة ليُرضوا ما في أنفسهم من عاطفة التديُّن، وليكون لهم إله معبود بلا منهج وبلا تكاليف، لذلك قلنا: إن من الوسطية في ديننا أنه يؤمن بإله واحد، في حين يوجد مَنْ يؤمن بآلهة متعددة، ويوجد مَنْ ينكر الإله بالمرة، فجاء الدين الإسلامي وبيَّن أن الإله واحد.
وما دام هو إله واحد {فَاسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ..} استقم يعني: سِرْ على حدّ الاستقامة لا تميل هنا ولا هناك. قالوا: كان رجل من طيء، اسمه ابن بندر رأى شاباً بيته هنا، لكن لا يذهب إليه من الطريق المعتاد المستقيم، إنما يدور في طرقات القرية ليذهب إلى بيته.
فعرف من ذلك أن الشاب يقصد بدورانه في الطرقات شيئاً مريباً، فقال له: يا هذا استقم إلى بيتك يعني: اذهب إليه من الطريق المستقيم، عندها عرف الشاب أن الرجل عرف قصده غير الشريف فارتدع.
كذلك قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ..} يعني: اقصدوه من طريق الاستقامة، وسمَّى طريقه الصراط المستقيم، وقد أثبت العلم أن الطريق المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، ثم إن الطريق المستقيم قد يكون ضيقاً يجبرك على الاستقامة عليه، وقد يكون واسعاً يسمح بالميل يميناً ويساراً، فإنْ كان واسعاً فاستقم فيه أيضاً لتقصر على نفسك مسافة الوصول، لأنك حين تميل تزيد المسافة، لذلك قال: {سَوَآءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] يعني: في وسطه دون ميل، بحيث يكون ما على يمينك مثل ما على شمالك، فمرة قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ومرة قال: {سَوَآءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108].
فقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ..} أي: بدايةً، فإنْ أصابتكم غفلة عن المنهج واقترفتم شيئاً {وَاسْتَغْفِرُوهُ..} أي: اطلبوا منه المغفرة.
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} لأن الاستغفار طلب مَحْو الشيء السابق، والقاعدة الشرعية تقول: إن درء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة. ومثَّلنا لذلك بواحد يريد أنْ يرمي لك تفاحة، وواحد يريد أن يرميك بحجر فأيهما أَوْلى، الأَوْلَى دَفْع الحجر، فقال {وَاسْتَغْفِرُوهُ..} ليتم لكم مسْح الذنوب، ولُتنشئوا مع الله علاقة جديدة قائمة على الطاعة والاستقامة.
كلمة {وَوَيْلٌ..} يعني: هلاك {لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} وهل فُرضَتْ الزكاةُ على مشرك؟ الزكاة لم تكُنْ فُرضت حتى على المؤمنين في هذا الوقت. قالوا: المراد بالزكاة هنا تطهير المال في حالة نموه، وكان المشركون يفعلون ذلك بالفعل، لكن يفعلونه من منطق الكرم والسمعة الطيبة، ولم يكُنْ الله في بالهم...
وقوله سبحانه: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} يعني: كفروا في البداية حين أشركوا بالإله الواحد، وكفروا في النهاية بالآخرة، كفروا في المنبع والمصب.