نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ} (6)

ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه ، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال : { قل } أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي عليهم بالعجز : { إنما أنا بشر مثلكم } لا غير بشر مما لا يرى ، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً . ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين : أحدهما فيه ، والآخر فيما يدعو إليه ، ونقض الأول ، قال في الثاني : { يوحى إليّ } أي بطريق يخفى عليكم { إنما إلهكم } أي الذي يستحق العبادة { إله واحد } لا غير واحد ، وهذا مما دلت عليه الفطر الأولى السوية ، وقامت عليه الأدلة العقلية ، وأيدتها في كل عصر الطرق النقلية ، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية ، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك ، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات ، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً ، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً ، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى ، أو يشكل فهمها ، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد ، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله .

ولما قطع حجتهم وأزال علتهم ، سبب عن ذلك قوله : { فاستقيموا } أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم { إليه } غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره . ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل ، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه ، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال : { واستغفروه } أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم ، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها ، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً . ولما أمر بالخير ، رغب فيه ووهب من ضده ، فكان التقدير للترغيب : فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك ، فعطف عليه ما السياق له فقال : { وويل } أي سوأة وهلاك { للمشركين * } .