الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ} (52)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر أنه إنما يتولاهم المنافقون، لأنهم وافقوهم على ما يقولون، قال سبحانه: {فترى الذين في قلوبهم مرض}، وهو الشك، فهُم المنافقون، {يسارعون فيهم}: في ولاية اليهود بالمدينة، {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}: دولة اليهود على المسلمين، وذلك أن نفرا من المنافقين، قالوا: نتخذ عند اليهود عهدا، ونواليهم فيما بيننا وبينهم، فإنا لا ندري ما يكون في غد، ونخشى ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم، فينقطع الذي بيننا وبينهم، ولا نصيب منهم قرضا ولا ميرة، فأنزل الله عز وجل: {فعسى الله أن يأتي بالفتح}، يعني بنصر محمد صلى الله عليه وسلم الذي يئسوا منه، {أو} يأتي {أمر من عنده}، قتل قريظة، وجلاء النضير إلى أذرعات، فلما رأى المنافقون ما لقي أهل قريظة والنضير، ندموا على قولهم، قال: {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل فيمن عُنى بهذه الآية؛

فقال بعضهم: عُنِى بها عبد الله بن أبيّ بن سلول.

وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من المنافقين كانوا يناصحون اليهود ويغشون المؤمنين ويقولون: نخشي أن تكون دائرة لليهود على المؤمنين. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويَغُشّون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر، إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عَبَدة الأوثان أو غيرهم على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلة، فيكون بنا إليهم حاجة. وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبيّ، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.

فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمد الذين في قلوبهم مرض وشكّ إيمان بنبوّتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك "يُسَارِعُونَ فِيهِمْ "يعني في اليهود والنصارى. ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم. "يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصِيبَنا دَائِرةٌ" يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدوّنا. ويعني بالدائرة: الدّولة، يعني: أن تدول للدهر دَوْلة فنحتاج إلى نصرتهم إيانا، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم: "فَعَسَى اللّهُ أنْ يَأْتِيَ بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا على ما أسَرّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ".

"فَعَسَى اللّهُ أنْ يَأْتِيَ بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ": فلعلّ الله أن يأتي بالفتح، ثم اختلفوا في تأويل الفتح في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عُني به ههنا: القضاء.

وقال آخرون: عُني به فتح مكة.

والفتح في كلام العرب: هو القضاء، ومنه قول الله تعالى: "رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وَبينَ قَوْمِنا بالحَقّ". وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: "فَعَسَى اللّهُ أنْ يَأْتِيَ بالفَتْحِ" فتح مكة، لأن ذلك كان من عظيم قضاء الله وفصل حكمه بين أهل الإيمان والكفر، ويقرّر عند أهل الكفر والنفاق أن الله مُعْلِي كلمتِه ومُوهِنُ كيدِ الكافرين.

وأما قوله: "أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ" فإن السديّ كان يقول في ذلك: الأمر: الجزية.

وقد يحتمل أن يكون الأمر الذي وعد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتي به، هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. غير أنه أيّ ذلك كان فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرّهم، وذلك أن الله تعالى قد أخبر عنهم أن ذلك الأمر إذا جاء أصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين.

وأما قوله: "فَيُصْبِحُوا على ما أسَرّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ": فإنه يعني: هؤلاء المنافقين الذين يوالون اليهود والنصارى، يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتِيَ بأمر من عنده يُدِيل به المؤمنين على الكافرين اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم وبغضة المؤمنين ومحادتهم نادمين... نادِمِينَ من موادّتهم اليهود، ومن غشّهم للإسلام وأهله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{أو أمر من عنده} قيل: عذاب أولئك الكفرة وهلاكهم في الدنيا {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} عند العذاب والهلاك، أو يندمون في الآخرة لما أصابهم من العذاب بما أسروا في أنفسهم في الدنيا من المودة لهم والعداوة للمؤمنين، والله أعلم

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" فعسى الله أن يأتي بالفتح ": عسى موضوعة في اللغة للشك، وهي من الله تعالى تفيد الوجوب، لأن الكريم إذا أطمع في خير يفعله، فهو بمنزلة الوعد به في تعلق النفس به وإرجائها له، ولذلك حق لا يضيع ومنزلة لا تخيب. والفتح: القضاء والفصل.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يسارعون فِيهِمْ} ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أي صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم...

{فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بالفتح} لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم: وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمر، وبالحري أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل أو أمر من عنده: أو أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم. وقيل: أو أمر من عند الله لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب. فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قال السُّدِّي: يعني فتح مكة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما علل بذلك، كان سبباً لتمييز الخالص الصحيح من المغشوش المريض، فقال: {فترى} أي فتسبب عن أن الله لا يهدي متوليهم أنك ترى {الذين في قلوبهم مرض} أي فساد في الدين كابن أبي وأصحابه -أخزاهم الله تعالى {يسارعون} أي بسبب الاعتماد عليهم دون الله {فيهم} أي في موالاة أهل الكتاب حتى يكونوا من شدة ملابستهم كأنهم مظروفون لهم كأن هذا الكلام الناهي لهم كان إغراء، ويعتلون بما لا يعتل به إلا مريض الدين من النظر إلى مجرد السبب في النصرة عند خشية الدائرة {يقولون} أي قائلين اعتماداً عليهم وهم أعداء الله اعتذاراً عن موالاتهم {نخشى} أي نخاف خوفاً بالغاً {أن تصيبنا دائرة} أي مصيبة محيطة بنا، والدوائر التي تخشى، والدوائل التي ترجى.

ولما نصب سبحانه هذا الدليل الذي يعرف الخالص من المغشوش، كان فعلهم هذا للخالص سبباً في ترجي أمر من عند الله ينصر به دينه، إما الفتح أو غيره مما أحاط به علمه وكوّنته قدرته يكون سبباً لندمهم، فلذا قال: {فعسى الله} أي الذي لا أعظم منه فلا يطلب النصر إلا منه {أن يأتي بالفتح} أي بإظهار الدين على الأعداء {أو أمر من عنده} بأخذهم قتلاً بأيديكم أو بإخراج اليهود من أرض العرب أو بغير ذلك فينكشف لهم الغطاء.

ولما كانت المصيبة عند الإصباح أعظم، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال: {فيصبحوا} أي فيسبب عن كشف غطائهم أن يصبحوا، والأحسن في نصبه ما ذكره أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي من أنه جواب "عسى "إلحاقاً لها بالتمني لكونها للطمع وهو قريب منه، ويحسنه أن الفتح وندامتهم المترتبة عليه عندهم من قبيل المحال، فيكون النصب إشارة إلى ما يخفون من ذلك، وهو مثل ما يأتي إن شاء الله تعالى في توجيه قراءة حفص عن عاصم في غافر {فاطلع} [غافر: 37] بالنصب {على ما أسروا}.

ولما كان الإسرار لا يكون إلاّ لما يخشى من إظهاره فساد، وكان يطلق على ما دار بين جماعة خاصة على وجه الكتمان عن غيرهم، بين أنه أدق من ذلك وأنه على الحقيقة مَنَعهم خوفهم من غائلته وغرته عندهم أن يبرزوه إلى الخارج فقال: {في أنفسهم} أي من تجويز محو هذا الدين وإظهار غيره عليه {نادمين} أي ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} اتفق رواة التفسير المأثور على نزول الآية في المنافقين، فهم الذين في قلوبهم مرض، أي إيمانهم معتل غير صحيح، إذ لم يصلوا فيه إلى مستقر اليقين، وكان عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ذا ضلع مع يهود بني قينقاع. وكان غيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها، كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء الثابت عليه، الراغب في ما يزيده تمكننا وثباتا، ولهذا قال {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ولم يقل:"يسارعون إليهم". فما عذر هؤلاء الذين يرددونه في أنفسهم، ويقولونه عند الحاجة بألسنتهم؟

{يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي نخشى أن تقع بنا مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان، أو من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها، فنحتاج إلى نصرتهم لنا، فنحن نتخذ لنا يدا عندهم في السراء، ننتفع بها إذا مست الضراء. والمراد أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين – وكان اليهود عونا للمشركين على المؤمنين كما ظهر في وقعة بدر والأحزاب – فيحل بهم ما يحل بالمؤمنين من النقمة. ذلك بأنهم غير موقنين بوعد الله بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كله. لأنهم في شك من أمر نبوته، لم يوقنوا بصدقها ولا بكذبها، فهم يريدون أن ينتفعوا منها بإظهارهم الإيمان بها، وأن يتخذوا لهم يدا عليها لأعدائها ليكونوا معهم إذا دالت الدولة لهم...

قال الله تعالى ردا على المنافقين عصر التنزيل {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي فالرجاء بفضل الله تعالى وصدقه ما وعد به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بالفتح والفصل بين المؤمنين ومن يعاديهم من اليهود والنصارى، أو يأمر من عنده في هؤلاء المنافقين، كفضيحتهم أو الايقاع بهم، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين وتوقع الدائرة عليهم. فالفتح في اللغة: القضاء والفصل في الشيء، وهو يصدق بفتح البلاد وبغير ذلك. ومنه قوله تعالى حكاية {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [الأعراف: 89] وقوله: {ويقولون متى هذا الفتح} [السجدة:28] وقيل المراد فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله. ولا يصح هذا القول إلا إذا كانت الآيات نزلت قبل فتح مكة، مع الجزم بأن أوائل السورة نزلت بعد ذلك في حجة الوداع. ويمكن حينئذ أن يكون المراد بالفتح فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها. وفسر بعضهم الأمر من عنده بالجزية تضرب على أهل الكتاب. فينقطع أمل المنافقين منهم، ويندموا على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.

وفسره بعضهم بالإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم. وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم، إما بالقهر، والإيجاف عليهم بالخيل والركاب [كبني قريظة] وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم، حتى يعطوا بأيديهم [كبني النضير].

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة؛ والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير:

(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)..

قال محمد بن إسحق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة. قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه. فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول -حين أمكنة الله منهم- فقال: يا محمد أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا محمد أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرسلني" وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا. ثم قال: "ويحك! أرسلني". قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي. أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤ أخشى الدوائر. قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هم لك"..

قال محمد بن إسحق: فحدثني أبي إسحق بن يسار، عن عبادة، عن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم؛ ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج. له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض) إلى قوله: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)...

فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم؛ والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام؛ وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم.. غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود، ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى.. ولكن النص يجمل اليهود والنصارى.. ذلك أنه بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين [كما سيجيئ في سياق هذا الدرس].. ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي، ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى... الخ.. مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك، فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى -كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار.. فيما يختص بقضية المحالفة والولاء. ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة. هي: أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم؛ وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة.. ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر.. مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف..

على أن الله- سبحانه -وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة، كان علمه يتناول الزمان كله، لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وملابساتها الموقوتة.. وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود.. وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام، فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب، قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن، وشنت عليه من الحرب والكيد، ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان! حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام، عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد؛ لا يجاريها في هذا إلا اليهود..

وكان الله- سبحانه -يعلم الأمر كله. فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة. بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة! وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان.

وما يزال الإسلام والذين يتصفون به- ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء -يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض، ما يصدق قول الله تعالى:

(بعضهم أولياء بعض).. وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم. بل بأمره الجازم، ونهيه القاطع؛ وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله، وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله..

إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة. فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة.. ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء- وهو التناصر -بين المسلم وغير المسلم؛ إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة.. ولا حتى أمام الإلحاد مثلا- كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن! -وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه؟

إن بعض من لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون حقيقة الإسلام؛ وبعض المخدوعين أيضا.. يتصورون أن الدين كله دين! كما أن الإلحاد كله إلحاد! وأنه يمكن إذن أن يقف "التدين "بجملته في وجه الإلحاد، لأن الإلحاد ينكر الدين كله، ويحارب التدين على الإطلاق..

ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي؛ ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام. ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة، وحركة بهذه العقيدة، لإقامة النظام الإسلامي.

إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد.. الدين هو الإسلام.. وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام.. لأن الله- سبحانه -يقول هذا. يقول: (إن الدين عند الله الإسلام).. ويقول: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).. وبعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا "الإسلام".. في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل. كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام، لم يعد يقبل منهم بعد بعثته..

ووجود يهود ونصارى- من أهل الكتاب -بعد بعثه محمد صلى الله عليه وسلم- ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه؛ أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي.. لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير.. أما بعد بعثته فلا دين -في التصور الإسلامي وفي حس المسلم- إلا الإسلام.. وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل..

إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام.. لأنه (لا إكراه في الدين) ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه" ديناً ويراهم على دين"..

ومن ثم فليس هناك جبهة تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد! هناك "دين" هو الإسلام.. وهناك "لا دين" هو غير الإسلام.. ثم يكون هذا اللادين.. عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها. أو إلحاداً ينكر الأديان.. تختلف فيما بينها كلها.. ولكنها تختلف كلها مع الإسلام. ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء..

والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء؛ وهو مطالب بإحسان معاملتهم -كما سبق- ما لم يؤذوه في الدين؛ ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن -على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته، وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابية تحل أم مشركة تحرم- وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامة.. فإن حسن المعاملة وجواز النكاح، ليس معناها الولاء والتناصر في الدين؛ وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب -بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو دين يقبله الله؛ ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهه واحدة لمقاومة الإلحاد!

إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب؛ كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء.

ودعاهم إلى الإسلام جميعاً، لأن هذا هو "الدين" الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً. ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام، وكبر عليهم أن يدعوا إليه، جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام، فإن تولوا عنه فهم كافرون!

والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء. وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام. لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه. فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمره له.

ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب- بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو دين يقبله الله.. ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام!.. إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد؛ هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين. وأنه يدعوهم إلى الدين.

وإذا تقررت هذه البديهية، فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض، مع من لا يدين بالإسلام.

إن هذه القضية في الإسلام قضية اعتقادية إيمانية. كما أنها قضية تنظيمية حركية!

من ناحية أنها قضية إيمانية اعتقادية نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه، وبالرجوع إلى النصوص القرآنية القاطعة بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب.

ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك.. فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة -وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج، وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة.. فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة؛ ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى- إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام -إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا- (والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف)..

والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام.. ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام.. لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي.. ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام، أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه، كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه!.. إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء..

ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول، وهو من الذين في قلوبهم مرض، عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود، والاستمساك بحلفه معها، هي قوله: إنني رجل أخشى الدوائر! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة، وأن تنزل بنا الضائقة.. وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان.. فالولي هو الله؛ والناصر هو الله؛ والاستنصار بغيره ضلالة، كما أنه عبث لا ثمرة له.. ولكن حجة ابن سلول، هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان؛ وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب، لا يدرك حقيقة الإيمان.. وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا. لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به، حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول!

إنهما نهجان مختلفان، ناشئان عن تصورين مختلفين، وعن شعورين متباينين، ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان!

ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم، المتألبين عليهم، المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم.. يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف؛ أو يكشف المستور من النفاق.

(فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)

وعندئذ -عند الفتح- سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله -يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض، على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره، وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين، ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

يحتمل أن يكون قولهم: {نخشى أن تصيبنا دائرة}، قولاً نفسياً، أي يقولون في أنفسهم. فالدّائرة المخشيّة هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين، فيكون هذا القول من المرض الّذي في قلوبهم...

... والدائرة اسم فاعل من دار إذا عَكس سيره، فالدائرة تغيّر الحال، وغلب إطلاقها على تغيّر الحال من خير إلى شرّ، ودوائر الدّهر: نُوبه ودولُه، قال تعالى: {ويتربّص بكم الدوائر} [التوبة: 98] أي تبدّل حالكم من نصر إلى هزيمة. وقد قالوا في قوله تعالى: {عليهم دائرة السَّوْء} [الفتح: 6] إنّ إضافة (دائرة) إلى (السَّوْء) إضافة بيان.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

بعد أن أشار سبحانه إلى أن الذين يجعلون نصرتهم من قبل المخالفين، وولايتهم لهم، ويقبلون أن يكونوا لهم تبعا – أخذ يبين أنه من بين الصفوف الإسلامية من ينتمون إليهم بقلوبهم، وهم بين المسلمين بمظاهرهم سواء أكانت هذه الظاهرة لها صلة بالخضوع الظاهري والحقيقي كضعاف المسلمين، أم كانوا لا يخضعون لمبادئ الإسلام بأي نوع من الخضوع كالمنافقين الذين لا يذعنون إذعانا ضعيفا أو غير ضعيف بل يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم.

وهنا نقف أمام العبارات السامية ونحاول أن نذكر بعض ما تشير إليه من بيان، ونتعرض في ذلك لأمور بيانية:

أّولها قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم).

الفاء تفصح عن شرط مقدر، مؤداه أنه كان الذين يتولونهم منهم، فإنك واجد من بين صفوف المسلمين من في قلوبهم مرض يسارعون فيهم...إلى آخره. والتعبير بقوله تعالى: (فترى) تصوير للحال الواقعة من أولئك الضعفاء في إيمانهم والمنافقين في قلوبهم – بأنها كالمرئية الظاهرة التي لا تخفى على ذي البصيرة المدركة، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتنبيه للحال الواقعة ليعالجها بهداية الله تعالى، وما آتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من حكمة، وليحتاط عليه الصلاة والسلام منهم، وليهيمن على توجيه قلوب الضعفاء، وتربية من يصلح منهم للتربية على الإيمان، ممن لم يرشدوا ولم تمس بشاشة الإسلام نفوسهم؟،ولم تشرب قلوبهم حبة.

ثانيها- التعبير بقوله سبحانه: (الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) وفي التعبير السامي إشارة إلى أن الذين يعطون لهم حق الولاية والنصرة دون المؤمنين سبب هذا الأمر منهم هو أن في قلوبهم مرضا، ومرض القلوب يكون إما من خور العزيمة، وعدم الإحساس بالقوة الدافعة لأن ينتصروا مما يقع عليهم من أذى وإما من النفاق.

والمسارعة: المبادرة، وتعدي الفعل هنا ب (في) مع أن المبادرة تتعدى ب (إلى) والحكمة في ذلك الإشارة إلى أنهم لا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبل فالمسارعة انتقال من حال إلى حال في صفوفهم أي أنهم منغمرون فيهم دائما، ولا يخرجون عن دائرتهم.

ثالثها- أنهم في مسارعتهم وبقائهم على الولاء لهم والانتصار بهم يقولون بأفواههم: (نخشى أن تصيبنا دائرة) الدائرة ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم ويقول الواحدي في أصل معناها: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث ومقتضى كلام الواحدي أن الدائرة كالدولة، إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى:(...وتلك الأيام نداولها بين الناس...140) (آل عمران) والدائرة تدور بين الناس والجماعات، بيد أن الدولة تتداول بالقوة والسلطان والعزة، والدائرة تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى جماعة، ومن يخشى الدائرة من الجزع والهلع يتوقع الأذى والشر...

وإن أولئك المتصفين بهذه الصفات من مرضى القلوب لا يثقون بنصر الله، أو على الأقل حالهم ليست حال المطمئن إلى نصر الله، لخور نفوسهم، وضعف إيمانهم أو امتلاء قلوبهم بالنفاق، وان إنهاء هذه الحال يكون بالنصر المؤزر، ولذا يقول سبحانه في توقع النصر المؤزر والفتح المبين: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) الفتح بمعنى التوسعة كما قال الله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض...96) (الأعراف) ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل، ومن ذلك قوله وتعالى:(...ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق...89) (الأعراف) ويطلق بمعنى الظفر والنصر، ومن ذلك قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا1) (الفتح).

والفتح هنا يراد به المعاني الثلاثة: فهو السعة بعد الضيق، والفصل بين حق صادق وباطل طاغ، والنصر والظفر.

ومعنى الرجاء من الله تعالى الوعد القاطع، لأنه من القادر على كل شيء الذي لا يصعب عليه شيء، والتعبير بالرجاء لتعليم المؤمنين ألا ييئسوا من رحمة الله ونصر المؤمنين، لأنه وليهم وناصرهم، فالله تعالى يعد المؤمنين، وهو الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض،فالله سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين إلى رجاء النصر والسعة والفصل بينهم وبين أعدائهم وذلك كله من الله تعالى.

(أو أمر من عنده) والأمر الذي يجيء من عند الله هو خضد شوكة غير المؤمنين، حتى يرجى نصره، ولا يخشى من الدوائر أو تزول دولتهم.

ومعنى النص الكريم أن الله سبحانه وتعالى سينجز وعده الذي وعد به عباده الصالحين، وعندئذ تكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان ولذا قال سبحانه:

(فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) وعند الفتح، أو الأمر الذي يزيل سلطان من يستنصر بهم مرضى القلوب يفرح المؤمنون بنصر الله، ويصبح الذين أسروا في أنفسهم خذلان المؤمنين، ورجاء ما عند غيرهم نادمين على ما أسروه، وخيب الله ظنهم فيهم، إذ رجوا ما عند الناس، ولم يرجوا ما عند الله، ورضوا بنصرة الطاغوت، وتركوا نصرة الله تعالى، وهنا نتكلم في أمرين:

أولهما – معنى الندم على ما أسروه، أن الندم في هذه هو الظن الفاسد إلى الله، وإنما ندمهم كندم المغيظ المحنق الذي كان يتوقع، أمرا فتبين له غيره.

الأمر الثاني: أن الله عبر عن ندمهم بالوصف لا بالفعل للإشارة إلى أن هذا الندم حال دائمة مستمرة تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.