الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" أيها المؤمنون بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلكم، بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والردى في نعم غيرها جمة. عن مجاهد: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" قال: النعم: آلاء الله.

"وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ": واذكروا أيضا أيها المؤمنون في نعم الله التي أنعم عليكم ميثاقه الذي واثقكم به، وهو عهده الذي عاهدكم به.

واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي ذكر الله في هذه الآية، أيّ مواثيقه عنى؟ فقال بعضهم: عنى به ميثاق الله الذي واثق به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له فيما أحبوا وكرهوا، والعمل بكلّ ما أمرهم الله به ورسوله... وقال آخرون: بل عنى به جلّ ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا.

وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام وميثاقه الذي واثقكم به، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له سمعنا وأطعنا، يقول: ففوا لله أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه، يف لكم بما ضمن لكم الوفاء به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وبإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال: عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه، لأن الله جلّ ثناؤه ذكر بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها، فقال: "وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَني إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْني عَشَرَ نَقِيبا..."، منبها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه، ومعرّفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله، زاجرا لهم عن نكث عهودهم، فيحلّ بهم ما أحلّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم، فكان إذا كان الذي ذكّرهم فوعظهم به، ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثله ميثاق قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم واجبا، أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظير حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيّنا صحة ما قلنا في ذلك وفساد خلافه.

"وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدُورِ": وعيد من الله جلّ اسمه للمؤمنين الذين أطافوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وتهددا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسله وعهدهم الذي عاهدوه فيه، بأن يضمروا له خلاف ما أبدوا له بألسنتهم. يقول لهم جلّ ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم: سمعنا وأطعنا، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم، وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النقم، وتصيروا في معادكم إلى سخط الله وأليم عقابه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

قوله جلّ ذكره: {وَاذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ}.

الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمْتَ أنه من هو.

ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القِسَمِ وهم في كَتْمِ العَدَم، فلا للأغيار عنهم خبر، ولا لهم عين ولا أثر، ولا وقع عليهم بصيرة، وقد سماهم بالإيمان، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرَّفهم التوحيد قبل أن كلَّفهم الحدود، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة، فقابلوا قوله بالتصديق، ووعَدُوا من أنفسهم الوفاءَ بشرط التحقيق، فأمدَّهم بحسن التوفيق، وثَبَّتهم على الطريق، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.

ثم قال: {وَاتَّقُوا اللهَ}: يعني في نقض ما أبرمتم من العقود، والرجوع عمَّا قدمتم من العهود، {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد، وذلك من وجهين: الأول: كثرة نعمة الله عليهم، وهو المراد من قوله {واذكروا نعمة الله عليكم} ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: إنما قال {واذكروا نعمة الله عليكم} ولم يقل نعم الله عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في أعداد نعم الله، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنس جنس لا يقدر غير الله عليه، فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله، فقوله تعالى: {واذكروا نعمت الله} المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره، وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره، ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل.

المسألة الثانية: قوله {واذكروا نعمت الله} مشعر بسبق النسيان، فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات، إلا أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها في محل النسيان، ولهذا المعنى قال المحققون: إنه تعالى إنما كان باطنا لكونه ظاهرا، وهو المراد من قولهم: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال، عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد: {واذكروا} أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار.

ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال: {نعمة الله} أي الملك الأعلى {عليكم} أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صلى الله عليه وسلم فقال: {وميثاقه} أي عقده الوثيق {الذي واثقكم به} أي بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره {إذ} أي حين {قلتم سمعنا وأطعنا} وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس، وتذكير بما أوجب له صلى الله عليه وسلم عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبة للوفاء الموعود عليه الجنة، والتفات إلى قوله أول السورة: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذا التناسب.

ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال: {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم. الذي يفعل ما يشاء. من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي أحوالها من سرائرها وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود، وعلانيتها وإن كان صاحبها قد نسيها.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

و {ذَاتُ الصدور}: ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد. ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها، فكيف بما كان ظاهراً جلياً.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي تذكروا يا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين متعادين فأصبحتم بنعمته عليكم بالهداية إلى الإسلام إخوانا في الإيمان والإحسان. واذكروا ميثاقه الذي واثقكم به، أي عهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، وإذ قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه وأطعناك فيه، فلا نعصيك في معروف، وكل ما جئتنا فهو معروف. أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد على الرجال والنساء بالسمع والطاعة فذكر الله تعالى عهد النساء في سورة الممتحنة ولم يذكر عهد الرجال وهو في معناه إلا أنه يتضمن معنى القتال لحماية الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن أهلها. وكمل نبي بعث في قوم أخذ عليهم الله ميثاق الله تعالى بالسمع والطاعة كما ترى مثال ذلك في الآيات الآتية. ومجرد قبول الدعوة والدخول في الدين يعد عهدا وميثاقا بالسمع والطاعة. وعهد الله وميثاقه الذي أخذه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أول هذه الأمة يدخل فيه كل من قبل الإسلام ومن نشأ فيه من بعدهم إلى يوم القيامة. فيجب أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما كان سلفنا الصالح من الصحابة (رض) يعدونه خطابا لهم.

{وَاتَّقُواْ اللّهَ} أيها المؤمنون أن تنقضوا عهده بمخالفة ما أمركم به ونهاكم عنه في هذه الآيات أو غيرها، أو أن تزيدوا فيما بلغكم رسولكم من أمر ربكم أو تنقصوا منه، أو أن تقصروا في حفظه، أو تحرفوا كلمه عن مواضعه، فتكونوا كالذين أخذ الله ميثاقهم من أهل الكتاب فنسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وزادوا في دينهم برأيهم ونقصوا منه، كما ترون في هذه السورة – وكذا في غيرها – كثيرا من أخبارهم، وما كان غضب الله عليهم وعقابهم {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} لا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليهم الميثاق من الوفاء أو عدم الوفاء، وما تنطوي عليه سريرة كل أحد من الإخلاص أو الرياء، وسيرون ما يترتب على ذلك الجزاء.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية، بقلوبهم وألسنتهم. فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية، وزيادة لفضل الله وإحسانه. و {مِيثَاقهِ ْ} أي: واذكروا ميثاقه {الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ْ} أي: عهده الذي أخذه عليكم. وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق، وإنما المراد بذلك أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما، ولهذا قال: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ْ} أي: سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية، سمع فهم وإذعان وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به بالامتثال، وما نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة. وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم، وتكون منهم على بال، ويحرصون على أداء ما أُمِرُوا به كاملا غير ناقص. {وَاتَّقُوا اللَّهَ ْ} في جميع أحوالكم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ} أي: بما تنطوي عليه من الأفكار والأسرار والخواطر. فاحذروا أن يطلع من قلوبكم على أمر لا يرضاه، أو يصدر منكم ما يكرهه، واعمروا قلوبكم بمعرفته ومحبته والنصح لعباده. فإنكم -إن كنتم كذلك- غفر لكم السيئات، وضاعف لكم الحسنات، لعلمه بصلاح قلوبكم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون -كما قدمنا- قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين. إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم، وفي حياتهم، وفي مجتمعهم، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم. ومن ثم كانت الإشارة -مجرد الإشارة- إلى هذه النعمة تكفي، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة. كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها. كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله، وهو أمر هائل جليل في حسن المؤمن، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها.. ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى. إلى إحساس القلب بالله، ومراقبته في خطراته الخافية: (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور).. والتعبير (بذات الصدور) تعبير مصور معبر موح، نمر به كثيرا في القرآن الكريم. فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء. وذات الصدور: أي صاحبة الصدور، الملازمة لها، الملاصقة بها. وهي كناية عن المشاعر الخافية، والخواطر الكامنة، والأسرار الدفينة. التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة. وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله، المطلع على ذات الصدور..

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء الجنس البشري، وهو الزواج ثم الوضوء وأركانه والاغتسال والتيمم وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني فقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا}

{واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا، فهو امتداد للسياق الذي كان يتعلق بالصلاة وما قبله من بيان الحلال والحرام كان يتعلق بالذين آمنوا فالآية الكريمة سائرة على هذا النسق البياني الرائع، والأمر في الآية لطلب تذكر أمرين جليلين، وهما نعمة الله تعالى التي أنعمها على المؤمنين وهي آلاء جليلة عظيمة، وتشمل نوعين من النعم، عامة وخاصة فالعامة تعم الناس جميعا مشركهم ومؤمنهم وهي نعمة الوجود وتسخير الكون بكل ما فيه لبني الإنسان والخاصة ما أسداه الله تعالى إلى المؤمنين، إذ هداهم وإذ كانوا قليلا فكثرهم وكانوا متفرقين فجمعهم، وكانوا أذلاء فأعزهم، وكانوا فقراء فأغناهم وكانوا مستضعفين في الأرض فمكن لهم فيها بمنه سبحانه وفضله، كما قال تعالى: {...فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار... (103) {(آل عمران).

والأمر الثاني الذي ذكرهم الله تعالى به هو الميثاق الذي عقدوه مع الله تعالى، والميثاق في اللغة هو العقد الموثق المؤكد بيمين الله تعالى وقد كان العهد من جانبهم يوجب عليهم السمع والطاعة فيما يأمرهم به الله تعالى، وفيما ينهاهم عنه، فالعهد فيه التزام من جانبهم وهو السمع والطاعة ووعد من جانب الله تعالى بأن يوليهم نعمه، ويهبهم النصر من لدنه وهو العزيز الحكيم وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك العهد بقوله: {الذي واثقكم به} أي الذي عقده سبحانه وتعالى معكم وتبادل معكم توثيقه وتأكيده، إذ إن واثق تقتضي المبادلة فالله تعالى ذو الجلال والإكرام هو الذي تولى ذلك الميثاق.

والمفسرون يتكلمون في الميثاق ما هو؟ قيل: هو الميثاق الذي أخذ بمقتضى الفطرة ولكن ذلك الميثاق لا يخص المؤمنين، بل يعم البشر وقيل: إنه الميثاق الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب في العقبة، ولكن هذا يخص الأنصار ولا يعم المؤمنين، والحق أنه الميثاق الذي كان التواثق فيه على أساس التزام المؤمنين بالسمع والطاعة، كما عين النص الكريم موضوعه إذ قال سبحانه: {إذ قلتم سمعنا وأطعنا} أي في الوقت الذي التزمتم فيه بالسمع والطاعة، وقد اختار ذلك ابن جرير (وهو قول ابن عباس) وقال في اختياره:"وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول ابن عباس وهو أن معناه: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم التي أنعمها بهدايته للإسلام، وميثاقه الذي واثقكم به، يعني وعهده الذي عاهدكم به، حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر إذ قلتم: سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق، وأطعناك فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه"...إلخ.

وكان التذكير بهذين الأمرين ليقوم المؤمنون بحقهما، فيما يتعلق بمعاملة الغير وفي علاقتهم بالناس من حيث إقامة العدالة لذات الله تعالى لا يريدون إلا وجهه الكريم وليكون القسط والميزان أساس أعمالهم.

{واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور} بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم عليه، على أساس السمع والطاعة، طلب إليهم أمرا آخر هو أساس الاستجابة للميثاق وهو تقوى الله تعالى بأن يستشعروا دائما عظمته، ويتخذوا وقاية لأنفسهم من معصية الله تعالى، فإن التقوى هي أساس الطاعة وهي لب الاستجابة لما جاء في ميثاق الله تعالى وهو أعلى ميثاق في الوجود، لا ميثاق يدانيه إلا إذا كان مشتقا منه، بأن يكون أساسه السمع والطاعة لله في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر وإن التقوى لله موضعها القلوب، وهي التي تحرك الجوارح فلا طاعة إلا إذا انبعثت من القلب عن طواعية ورضا واطمئنان ولذا قال سبحانه: {إن الله عليم بذات الصدور} وتكرار ذكر الله تعالى لإشعار المؤمنين برقابته وإلى أنه فوقهم ومطلع عليهم، ومراقبتهم بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى والله تعالى عليم علما لا يدرك كنهه بكل شيء بما تخفيه وما تكنه الأفئدة. وذات الصدور هي: الأمور الملازمة للصدور التي تخفيها ولا تظهرها فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه يلازمه ولا يبعد عنه، ولا ينكشف فهي من ناحية أنها لا تخرج من الصدر تعد مصاحبته ويعبر عنها بذات الصدر كما يقال: فلان ذو مال. أي ملازم له.

وذكر إحاطة علم الله تعالى في هذا فيه إشارة إلى وجوب تطهير القلوب من الدنس، وتنظيفها من الشر، حتى لا تربد به وتطمس وفيه تنبيه إلى أنه من يريد السمع والطاعة عليه أن يتجه إلى قلبه ويشعر بأن الله عليم به، مطلع عليه لا تخفى عليه خافية.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وللإنسان أن يسأل "وما هو الذكر؟ الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء، هذا هو معنا الذكر وقد يكون الذكر بمعنى القول، لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره... فالذاكرة إذن معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره مثال ذلك: حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاما، ونسي الإنسان هذا الحادث فلما التقى بصديقه وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاما. إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة يتذكرها الإنسان وهذه هي قوة الخالق جل وعلا...

ويذيل الحق الآية: "إن الله عليم بذات الصدور "والتقوى كما نعلم لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة، ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة، فالحقد الحسد التبييت المكر كل ذلك صفات سيئة فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط، بل للمحسات أيضا وعمل القلوب له دخل في تقوى الله.