اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

قوله - سبحانه - : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } الآية .

لما ذَكَر التَّكَالِيفُ أرْدَفَهُ بما يُوجِبُ عَلَيْهِمْ القبُول والانْقِيَاد ، وذلك مِن وَجْهَيْن :

الأوَّلُ : كَثْرَةُ نِعَم اللَّهِ عَلَيْهِم ؛ لأنَّ كَثْرَة النِّعَمِ تُوجِبُ على المُنْعِمِ عَلَيْه الاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ المُنْعمِ ، والانْقِيَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيه .

وقال : " نِعْمَةَ اللَّه " ولمْ يَقُلْ " نِعَم اللَّهِ " ؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ لا يَقْدِرُ عَلَيْه غير اللَّه ؛ لأنَّ نِعْمَة الحَيَاةِ ، والصِّحَّة ، والعَقْل ، والهِدَايَةِ ، والصَّوْن من الآفَاتِ ، وإيصَال الخَيْرَاتِ في الدُّنْيَا والآخِرَة شيء لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الله تعالى ، وإنَّما المُرادُ [ التَّأمُّل ]{[11154]} في هذا النَّوْع مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتَازٌ عن نِعْمَةِ غَيْرِهِ .

والوجه الثاني في السببِ المُوجبِ للانْقِيَادِ للتَّكَالِيفِ : هُوَ المِيثَاقُ الذي واثَقَكُمْ بِهِ .

فإن قِيلَ : [ قوله ]{[11155]} { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } مشعِرٌ بسَبْقِ{[11156]} النِّسْيَان : وكَيْفَ يُمْكِن نِسْيَانُها [ مع أنها ]{[11157]} مُتَوَاتِرَةٌ متَوالِيَةٌ [ علينا ]{[11158]} في جَميعِ السَّاعَاتِ والأوْقَاتِ ؟ فالجَوابُ : أنَّها لِكَثْرتها وتعاقُبها صارتْ كالأمْرِ المُعْتَاد ، فصارت غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وكَثْرتها سَبباً لِوُقوعِهَا مَحَلَّ النِّسْيَان{[11159]} .

فصل في تفسير الميثاق

اختَلَفُوا في تَفْسِير هذا الميثاقِ ، فقال أكْثَرُ المُفَسِّرين{[11160]} : هو العَهْدُ الذي عَاهَدَ اللَّه عَلَيْه المُؤمنين حين بَايَعُوا رَسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرَّف وكرم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ وغَيْرها على أن يكُونُوا على السَّمْعِ والطاعَةِ في [ المَحْبُوبُ والمكروه ]{[11161]} ؛ وأضَافَ الميثاقَ الصَّادِر عن الرَّسُول إلى نَفْسِهِ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وأكَّدَ ذَلِكَ بأنَّهم التزمُوا وقالُوا : " سَمِعْنَا وأطَعْنَا " ، ثم حذَّرَهم عن نَقْضِ تِلْك العُهُود فلا تَعْزِمُوا بقلوبكم على نَقْضِهَا ، فاللَّهُ يَعْلَم ذلك ، وكَفَى به مُجَازِياً .

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : هو المِيثاقُ الذي أخذه اللَّه على بَنِي إسْرائِيل حين قالُوا : آمَنَّا بالتَّوْرَاة وبكُلِّ ما فيها ، وكان من جُمْلة ما في التَّوْرَاةِ البِشَارَةُ بمقدم مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام {[11162]}- .

وقال مُجَاهِدٌ والكَلْبِي ومقاتلٌ : هو المِيثَاقُ الذي أخَذَهُ منهم حِين أخْرَجَهم من ظَهْر آدَم ، وأشْهَدَهُمْ على أنْفسِهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قَالُوا :ْ بَلَى }{[11163]} .

وقال السّديّ : المُرَاد بالمِيثاقِ : الدَّلائل العَقْلِيَّة والشَّرْعِية التي نَصَبَها اللَّهُ على التَّوْحِيدِ والشَّرائعِ{[11164]} .

قوله تعالى : { إِذْ قُلْتُمْ [ سَمِعْنَا ]{[11165]} } ، في " إذْ " ثلاثةُ أوْجُه :

أظهرها : أنَّهُ مَنْصوب ب " وَاثَقَكُمْ " .

الثاني : أنَّهُ مَنْصَوبٌ على الحَالِ من الهَاءِ في " بِهِ " .

الثالث : أنَّهُ حال من [ " ميثاقِهِ " ]{[11166]} ، وعلى هذَيْن الوَجْهَيْن الأخيريْن يتعلَّقُ بمحذُوفٍ على القاعِدَة المُقَرَّرَةِ .

و " قُلْتُم " في محلّ خَفْضٍ بالظَّرْف ، و " سَمِعْنَا " في محلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ .


[11154]:سقط في أ.
[11155]:سقط في أ.
[11156]:في ب: يشعر سبق.
[11157]:في أ: هي.
[11158]:في أ: عليها.
[11159]:ينظر: تفسير الرازي 11/141.
[11160]:ينظر: المصدر السابق.
[11161]:في ب: المكروه والمحبوب.
[11162]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/481) والطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(7/17) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/469) وعزاه للطبري والطبراني وقال الهيثمي في "المجمع" (7/17) وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.
[11163]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/481) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/469) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد.
[11164]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير"(11/142) عن السدي.
[11165]:سقط في أ.
[11166]:سقط في أ.