103- إننا لنعلم ما يقوله كفار مكة : إنه لا يُعلم محمدا هذا القرآن إلا رجل من البشر نعرفه ، هو شاب رومي ، وما ينزله عليه ملك من عند اللَّه كما يقول قولهم ، وهذا باطل ؛ لأن الشاب الذي يقولونه عنه أنه يعلمك هذا التعليم ، أعجمي لا يحسن العربية ، والقرآن لغة عربية واضحة الفصاحة ، إلى حد أنكم عجزتم أيها المكابرون عن محاكاتها ، كيف يصح بعد ذلك اتهامكم ؟ .
قوله تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } ، آدمي ، وما هو من عند الله ، واختلفوا في هذا البشر : قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة ، اسمه بلعام وكان نصرانياً ، أعجمي اللسان ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام . وقال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاماً لبني المغيرة يقال له : يعيش ، وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : { إنما يعلمه بشر } ، يعني : يعيش . وقال الفراء : قال المشركون : إنما يتعلم من عايش ، مملوك كان لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجم اللسان . وقال ابن إسحاق :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، عبد لبعض بني الحضرمي يقال له :جبر ، وكان يقرأ الكتب ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما يسار ، يكنى أبا فكيهة ، ويقال للآخر جبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وهما يقرآن ، فيقف ويستمع . قال الضحاك : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما ويستريح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد منهما ، فنزلت هذه الآية . قال الله تعالى تكذيباً لهم : { لسان الذي يلحدون إليه } ، أي : يميلون ويشيرون إليه ، { أعجمي } ، الأعجمي : الذي لا يفصح وإن كان ينزل بالبادية ، والعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحاً ، والأعرابي : البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب ، وإن لم يكن فصيحاً ، { وهذا لسان عربي مبين } ، فصيح ، وأراد باللسان القرآن ، والعرب تقول : اللغة لسان ، وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه .
وقوله : { ولقد نعلم أنهم يقولون } ، قال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش ، يقال له : بلعام ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ويعلمه الإسلام ويرومه عليه ، فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم ، فنزلت الآية بسببه ، وقال عكرمة وسفيان : كان اسم الغلام يعيش ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان بمكة غلامان ، أحدهما اسمه جبر والآخر يسار ، وكانا يقرآن بالرومية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ، فقالت قريش ذلك ، ونزلت الآية ، وقال ابن إسحاق : الإشارة إلى جبر ، وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة بمدة ، وقرأت فرقة : «لسان الذي » ، وقرأ الحسن البصري : «اللسان الذي » ، بالتعريف وبغير تنوين في رأي بشر{[7414]} ، وقرأ نافع وابن كثير : «يُلحدون » ، بضم الياء ، من ألحدَ إذا مال ، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر وأبي جعفر بن القعقاع ، وقرأ حمزة والكسائي : «يَلحدون » ، بفتح الياء من لحد ، وهي قراءة عبد الله وطلحة وأبي عبد الرحمن والأعمش ومجاهد ، وهما بمعنى ، ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]
قدني من نصر الخبيبين قدي . . . ليس أمري بالشحيح الماحد
يريد : المائل عن الجود وحال الرياسة ، وقوله : { أعجمي } ، إضافة إلى أعجم لا إلى العجم ؛ لأنه كان يقول عجمي ، والأعجمي : هو الذي لا يتكلم بالعربية ، وأما العجمي : فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة{[7415]} ، وقوله : { وهذا } ، إشارة إلى القرآن والتقدير ، وهذا سرد لسان ، أو نطق لسان ، فهو على حذف مضاف ، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة ، و «اللسان » في كلام العرب : اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية ، واللسان الخبر ومنه قول الأعشى : إني أتتني لسان غير كاذبة{[7416]} .
لسان السوء يهديها إلينا . . . وجيت وما حسبتك أن تجينا
وحكى الطبري عن سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله : { إنما يعلمه بشر } ، { إنما } هي إشارة إلى كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر الآيات : «والله سميع عليم » ، أو «عزيز حكيم » ، أو نحو هذا ، ثم يشتغل بسماع الوحي ، فيبدل هو بغفور رحيم أو نحوه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الآيات : هو كما كتبت ، ففتن ، وقال أنا أعلم محمداً ، وارتد ولحق بمكة ، ونزلت الآية فيه . قال القاضي أبو محمد : هذا نصراني أسلم وكتب ، ثم ارتد ولحق بمكة ومات ، ثم لفظته الأرض ، وإلا فهذا القول يضعف ؛ لأن الكاتب المشهور الذي ارتد لهذا السبب ولغيره من نحوه هو عبد الله بن أبي سرح العامري ، ولسانه ليس بأعجمي فتأمله .
عطف على جملة { وإذا بدلنا آية مكان آية } [ سورة النحل : 101 ] . وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم ، وذلك أن يقولوا : إن محمداً يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة . قيل : قائل ذلك الوليدُ بن المغيرة وغيره ، قال عنه تعالى : { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر } [ سورة المدثر : 24 ] ، أي لا يلّقنه مَلَك بل يعلّمه إنسان ، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } .
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و ( قدْ ) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف ، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك . فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جَبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثالُه من عامّة النصارى من دعوات الصلوات ، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويهاً على العامة ، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة ، أو يكتب حروفاً يتعلّمها ، يحسبونه على علم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جَانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش . هذا يعلّم محمداً ما يقوله .
وقيل : كان غلام رومي اسمه بلعام ، كان عبداً بمكة لرجل من قريش ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام ، فقالوا : إن محمداً يتعلّم منه ، وكان هذا العبد يقول : إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام .
وظاهر الإفراد في { إليه } أن المقصود رجل واحد . h وقد قيل : المراد عَبدَان هما جَبر ويَسار كانا قنّين ، فيكون المراد ب { بشر } الجنس ، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده .
وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولاً فصلاً دون طول جدال { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } ، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين ، وهذا القرآن فصيح عربي معجز .
والجملة جواب عن كلامهم ، فهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قولهم : { إنما يعلمه بشر } يتضمنّ أنه ليس منزّلاً من عند الله فيسأل سائل : ماذا جواب قولهم ؟ فيقال : { لِسانُ الذي . . . } الخ ، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى : { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ سورة الأنعام : 124 ] .
وألْحَد : مثل لَحَد ، أي مال عن القويم . فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد ، كقولهم : أبان بمعنى بان . فمعنى { يلحدون } يميلون عن الحقِّ لأن ذلك اختلاقُ معاذير ، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من الله إلى أن يقولوا { يعلمه بشر } ، فذلك ميل عن الحقّ وهو إلحاد .
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميْل بكلامهم المبهم إلى قَصدٍ معين لأنهم قالوا : { إنما يعلمه بشر } وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير ، فإذا وجدوا ساذجاً أبَلْهَ يسأل عن المعني بالبشر قالوا له : هو جَبر أو بَلعام ، وإذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا : هو بشر من الناس ، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميَل على الاختيار .
وقرأ نافع والجمهور { يلحدون } بِضمّ الياءِ مضارع ألحد . وقرأ حمزة والكسائي { يَلحَدون } بِفتح الياءِ من لَحد مرادف أَلحد . وقد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } في سورة الأعراف ( 180 ) . وليست هذه الهمزة كقولهم : ألحد الميتَ ، لأن تلك للجعل ذَا لحد .
واللسان : الكلام . سمّي الكلام باسم آلته . والأعجمي : المنسوب إلى الأعجم ، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده . ولذلك سمّوا الدوابّ العجماوات . فالياء فيه ياء النسب . ولما كان المنسوب إليه وصفاً كان النسب لتقوية الوصف .
والمبين : اسم فاعل من أبان ، إذا صار ذا إبِانة ، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة ، فحصل تمام التضادّ بينه وبين { لسان الذي يلحدون إليه } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}، وذلك أن غلاما لعامر بن الحضرمي القرشي يهوديا أعجميا، كان يتكلم بالرومية، يسمى: يسار، ويكنى: أبا فكيهة، كان كفار مكة إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه، قالوا: إنما يعلمه يسار أبو فكيهة، فأنزل الله تعالى: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}، ثم أخبر عن كذبهم، فقال سبحانه: {لسان الذي يلحدون إليه}، يعني: يميلون، كقوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد} [الحج:25]، يعني: يميل، {أعجمي}: رومي، يعني: أبا فكيهة، {وهذا} القرآن، {لسان عربي مبين}، يعني: بين يعقلونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلاً منهم: إنما يعلّم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله. يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون؟ إن لسان الذين تلحدون إليه، يقول: تميلون إليه. بأنه يعلم محمدا، أعجميّ. وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلّم محمدا هذا القرآن عبد روميّ، فلذلك قال تعالى: {لِسانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيّ وَهذَا لِسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ}، يقول: وهذا القرآن لسان عربيّ مبين...
واختلف القرّاء في قراءة قوله: {يُلْحِدُونَ} فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة: {لِسانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْه}، بضم الياء، من ألحد يلحد إلحادا، بمعنى: يعترضون ويعدلون إليه ويعرجون إليه.وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: «لِسانُ الّذِي يَلْحِدُونَ إلَيْهِ» بفتح الياء، يعني: يميلون إليه، من لَحَدَ فلان إلى هذا الأمر يَلْحِدُ لَحدا ولُحودا. وهما عندي لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيهما الصواب.
وقيل: {وَهَذَا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ}، يعني: القرآن كما تقول العرب لقصيدة من الشعر يعرضها الشاعر: هذا لسان فلان، تريد قصيدته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}، هم لم يقولوا {إنما يعلمه بشر}، ولكن كانوا ينصون واحدا فلانا، لكن الخبر من الله على ذكر البشر.
ألا ترى أنه أخبر أن لسان {الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}؟ دل أن البشر الذين أخبر عنهم أنهم يقولون: إنه يعلمه بشر كان منصوصا عليه مشارا إليه حين 17 قال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي}، ولسان النبي عربي. فكيف فهم هذا من هذا؟ وهذا من هذا؟ ولسان هذا غير لسان هذا. وما قاله أهل التأويل أنه كان يجلس إلى غلام، يقال له كذا، وهو يهودي، يقرأ التوراة، فيستمع إلى قراءته، وكان يعلمه الإسلام حتى أسلم. فعند ذلك قالت له قريش: {إنما يعلمه بشر}. ولو كان ما ذكر أنه كان يعلمه الإسلام، فأسلم، فلقائل أن يقول: كيف فهم ذلك الرجل منه لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولسانه غير لسانه على ما أخبر؟ لكن يحتمل أن يكون ذلك في القرآن حين 18 {قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 101)، ثم يقولون: {إنما يعلمه بشر} فنقول، والله أعلم، إنه كيف علمه هذا القرآن، وهو لا يفهم من لسانه إلا يسيرا منه، فأنتم لسانكم عربي، لا تقدرون أن تأتوا بمثله ولا بسورة من مثلها ولا بآية. فكيف قدر على مثله من لا يفهم لسانه، ولا كان بلسانه. يخرج ذلك على الاحتجاج عليهم.
وبعد فإن في قولهم ظاهر التناقض؛ لأنهم {قالوا إنما أنت مفتر}، ثم قالوا: {إنما يعلمه بشر}، فالذي علمه غيره، ليس بمفتر، إنما يكون لافتراء من ذات نفسه. فهو ظاهر التناقض.
وقوله تعالى: {عربي مبين}، يحتمل ما لهم وما عليهم، أو مبين للحقوق التي لله عليهم وما لبعضهم على بعض، أو مبين أنه من عند الله نزل، ليس بمفترى...
وقوله تعالى: {يلحدون إليه}، قال بعضهم: يميلون إليه، وهو قول أبي عوسجة والقتبي. قالوا: الإلحاد: الميل، ولذلك سمي اللحد لحدا، لميله إلى ناحية القبر. وقال الكسائي: هو من الركون إليه، أي: يركنون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يستوحش الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاءِ حاله وقَدْرِه عليهم.. وأيُّ ضررِ يلحق مَنْ كانت مع السلطان مُجَالَسَتُه إذا خَفِيَتَ على الأَخسِّ مِنَ الرعيةِ حالتُه؟... فَمِن فَرْطِ جهلهم توهموا أنَّ القرآنَ- الذي عجز كافةُ الخَلْق عن معارضته في فصاحته بلاغته، -مقولٌ وحاصلٌ باتصاله بِمَنْ هو أعجمي النطق...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والملحد: هو الذي مال عن الحق إلى التعطيل... ومعنى الآية: أنه كيف يأخذ منهم، وهم لا يفصحون بالعربية...
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمدا إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه... والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه...
والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها، وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين، لأن القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر... ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجميا...
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا: القرآن إنما كان معجزا لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل: هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزا لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود، إذ القرآن إنما كان معجزا لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم... وتقريره يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي، لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه.
وثانيهما: هب أنه تعلم من المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي، سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهو ناقل عنه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نقض شبهتهم هذه إشارة وعبارة بما فضحهم، نقض لهم شبهة أخرى بأوضح من ذلك وأفضح فقال تعالى: {ولقد نعلم}، أي: علماً مستمراً، {أنهم يقولون}، أي: أيضاً قولاً متكرراً لا يزالون يلهجون به، {إنما يعلمه بشر}، وهم يعلمون أن ذلك سفساف من القول؛ ثم استأنف الرد عليهم فقال تعالى: {لسان}، أي: لغة وكلام، {الذين يلحدون}، أي: يميلون أو يشيرون {إليه} بأنه علمه إياه، مائلين عن القصد جائرين عادلين عن الحق ظالمين. {أعجمي}، أي: غير لغة العرب، وهو مع ذلك ألكن في النادية غير بين، وهو غلام كان نصرانياً لبعض قريش اختلف في اسمه، وهذا التركيب وضع في لسان العرب للإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيب -لاستتاره، والعجماء: البهيمة-؛ لأنها لا تقدر على إيضاح ما في نفسها، وأما أعجمت الكتاب فهو للإزالة. {وهذا}، أي: القرآن. {لسان عربي مبين}، أي: هو من شدة بيانه مظهر لغيره أنه ذو بيان عظيم، فلو أن المعلم عربي؛ للزمهم أن لا يعجزوا عن الإتيان بمثل ما علم، فكيف وهو أعجمي.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوّه تلك العظيمةِ... وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه، مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس نسبتَه عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائناً مَنْ كان، مع كونه عليه السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والفرية الأخرى بزعمهم أن الذي يعلم الرسول [صلى الله عليه وسلم] هذا القرآن إنما هو بشر. سموه باسمه، واختلفت الروايات في تعيينه...
وهذه المقالة منهم يصعب حملها على الجد، وأغلب الظن أنها كيد من كيدهم الذي كانوا يدبرونه وهم يعلمون كذبه وافتراءه. وإلا فكيف يقولون -وهم أخبر بقيمة هذا الكتاب وإعجازه- إن أعجميا يملك أن يعلم محمدا هذا الكتاب. ولئن كان قادرا على مثله ليظهرن به لنفسه!... واليوم، بعد ما تقدمت البشرية كثيرا، وتفتقت مواهب البشر عن كتب ومؤلفات، وعن نظم وتشريعات؛ يملك كل من يتذوق القول، وكل من يفقه أصول النظم الاجتماعية، والتشريعات القانونية أن يدرك أن مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عمل البشر. وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية، عندما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين عام 1954 كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد -هو محمد- بل من عمل جماعة كبيرة. وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها!!! دعاهم إلى هذا استكثار هذا الكتاب على موهبة رجل واحد. وعلى علم أمة واحدة. ولم يقولوا ما يوحي به المنطق الطبيعي المستقيم: إنه من وحي رب العالمين. لأنهم ينكرون أن يكون لهذا الوجود إله، وأن يكون هناك وحي ورسل ونبوات! فكيف كان يمكن -وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين- أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني فلان في الجزيرة العربية؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وإذا بدلنا آية مكان آية}. وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم، وذلك أن يقولوا: إن محمداً يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل: قائل ذلك الوليدُ بن المغيرة وغيره، قال عنه تعالى: {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} [سورة المدثر: 24]، أي لا يلّقنه مَلَك بل يعلّمه إنسان، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي}.
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و (قدْ) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جَبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثالُه من عامّة النصارى من دعوات الصلوات، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويهاً على العامة، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة، أو يكتب حروفاً يتعلّمها، يحسبونه على علم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جَانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش. هذا يعلّم محمداً ما يقوله.
وقيل: كان غلام رومي اسمه بلعام، كان عبداً بمكة لرجل من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا: إن محمداً يتعلّم منه، وكان هذا العبد يقول: إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام.
وظاهر الإفراد في {إليه} أن المقصود رجل واحد.وقد قيل: المراد عَبدَان هما جَبر ويَسار كانا قنّين، فيكون المراد ب {بشر} الجنس، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولاً فصلاً دون طول جدال {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين، وهذا القرآن فصيح عربي معجز.
والجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قولهم: {إنما يعلمه بشر} يتضمنّ أنه ليس منزّلاً من عند الله فيسأل سائل: ماذا جواب قولهم؟ فيقال: {لِسانُ الذي...} الخ، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى: {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [سورة الأنعام: 124].
وألْحَد: مثل لَحَد، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد، كقولهم: أبان بمعنى بان. فمعنى {يلحدون} يميلون عن الحقِّ لأن ذلك اختلاقُ معاذير، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من الله إلى أن يقولوا {يعلمه بشر}، فذلك ميل عن الحقّ وهو إلحاد.
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميْل بكلامهم المبهم إلى قَصدٍ معين لأنهم قالوا: {إنما يعلمه بشر} وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجاً أبَلْهَ يسأل عن المعني بالبشر قالوا له: هو جَبر أو بَلعام، وإذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا: هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميَل على الاختيار.
وقرأ نافع والجمهور {يلحدون} بِضمّ الياءِ مضارع ألحد. وقرأ حمزة والكسائي {يَلحَدون} بِفتح الياءِ من لَحد مرادف أَلحد. وقد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} في سورة الأعراف (180). وليست هذه الهمزة كقولهم: ألحد الميتَ، لأن تلك للجعل ذَا لحد.
واللسان: الكلام. سمّي الكلام باسم آلته. والأعجمي: المنسوب إلى الأعجم، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده. ولذلك سمّوا الدوابّ العجماوات. فالياء فيه ياء النسب. ولما كان المنسوب إليه وصفاً كان النسب لتقوية الوصف.
والمبين: اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبِانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة، فحصل تمام التضادّ بينه وبين {لسان الذي يلحدون إليه}.
وهل يعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صدر واحد من هؤلاء؟! لو حدث لكان له في المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة، ولأشاروا إليه بالبنان، ولذاع صيته، واشتهر أمره، وشيء من ذلك لم يحدث.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، فقد كان مصدر هذا الكتاب المعجز الذي تحدّاهم به، في أسلوبه وفي مضمونه يحيرهم؛ كيف جاء به محمد، وهو من عاش معهم ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يأخذ بقسط وافر من الثقافة تمكنه من هذا الإبداع ذاتياً، كما أنهم لا يريدون الاعتراف له بالنبوّة التي تلتقي بالوحي كتفسير لكل هذه الآيات التي أعجزت البشر، لذا أبعدوا عن أذهانهم احتمال أن يأتي بها بشر؛ لأنهم لم يتعقلوا، ولم يريدوا تعقّل الفكرة التي تجمع بين البشرية والنبوّة، وهكذا بحثوا عمن ينسبون إليه القرآن ليكون معلّماً لمحمدٍ، ومبدعاً لهذه الآيات، واعتبروه شخصاً غير عربي؛ لأن غالبية العرب كانوا من الأميين. وتلقف هذه الفكرة الكثير من الناس الذين وجدوا فيها وسيلة للتشكيك بنبوة محمد، وجواباً على جمعه بين الأمية وإبداع القرآن. من هنا أخذ المبشرون والمستشرقون والمتغربون من المثقفين، يربطون بين ثقافة النبي وبين رعاية آخرين له في عصره وفي بلده ثقافياً. ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم لم يكتشفوا جديداً في إثارة ذاك الإشكال، ذلك أن القرآن نفسه نقل عن معارضي الرسالة من قريش، طرحهم للإشكال نفسه وخلّده في آياته، ليفكر كل جيل ممن يقرأ القرآن في طبيعة التهمة، وفي طبيعة ردها، كي يقتنعوا على أساس الحجة التي يقدمها في هذا الشأن، ضمن النهج القرآني في تربية العقيدة من خلال الفكر القائم على دراسة المشاكل المثارة حولها. هذا بالإضافة إلى ما يوحيه من الثقة بالحق في نبوّة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بالمستوى الذي لا يخشى فيه ذكر ما قيل في حقه، تعليقاً على نبوّته؛ لأنه لا يرى فيها سبباً معقولاً للشكّ، ليعيش الناس في المرحلة البعيدة عن زمن الدعوة الثقة التي عاشها معاصرو الدعوة، من خلال سماعهم ما كان أولئك قد سمعوه في رد قرآني على أولئك المشككين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فإِنْ كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ مُعَلِّمَ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئاً، فهذا في منتهى السفه؛ إِذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلِّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم، حتى أنّ القرآن تحداهم بإِتيان سورة من مثله فما استطاعوا، ناهيك عن عدد الآيات؟! وإِنْ كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي.. فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر؛ إذ أن المحتوى القرآني قد صُبَّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة، بحيث خضع لبلاغته وإِعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيِّ إِنسان، وليس لذلك أهلا سوى اللّه عز وجل، وسبحانه عمّا يشركون...
ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة، هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إِلاّ...
والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم مَنْ ينسبون إِليه القرآن، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إِليه القرآن، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء...
أضف إلى ذلك كله، أن تاريخ حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر، وإِن كان -على سبيل الفرض -صاحب القرآن موجوداً، ألا يستلزم ذلك اتصال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به وباستمرار؟ إِنّهم حاولوا التشبث لا أكثر، وكما قيل: (الغريق يتشبَّث بكل حشيش)...
إِنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإِعجازي أمر واضح، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر، حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإِنساني، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر...