فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ} (103)

{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ( 103 ) } .

ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ } ، علما مستمرا ، { أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } ، وليس هو من عند الله كما هو يزعم ، واللام هي الموطئة ، أي : والله لقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون : إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم غير ملك .

وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا ، فقيل : هو غلام الفاكه بن المغيرة ، واسمه جبر ، وكان نصرانيا حدادا روميا فأسلم ، وكان قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أميا ، قالوا إنما يعلمه جبر .

وقيل : اسمه عايش أو يعيش ، عبد لبني الحضرمي وكان يقرأ الكتب الأعجمية ، وقيل : غلام لبني عامر بن لؤي ، وقيل : عنوا سلمان الفارسي ، وقيل : عنوا نصرانيا كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية ، وفي رواية اسمه : عداس ، وقيل أرادوا بالبشر : غلامين ، اسم أحدهما يسار ، واسم الآخر : جبر ، وكانا صيقليين يعملان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن كتابا لهم ، وقيل :كانا يقرآن التوراة والإنجيل . وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه ، فقال المشركون : إنما يتعلم منهما ؛ قاله عبد الله بن مسلم الحضرمي .

قال النحاس : وهذه الأقوال غير متناقضة ؛ لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعا يعلمونه ، ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال أنه سلمان ؛ لأن هذه الآية مكية ، وهو إنما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة .

ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال : { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } ، أي : لغته وكلامه ، { أَعْجَمِيٌّ } . والإلحاد : الميل ، يقال : لحد وألحد ، أي : مال عن القصد ، ومنه لحد القبر ؛ لأنه حفرة مائلة عن وسطه ، وقد تقدم في الأعراف ، والمعنى : لسان الذي يميلون إليه ويشيرون ويزعمون أنه يعلمك أعجمي ، يقال : رجل أعجم ، وامرأة عجماء ، أي : لا يفصحان ، والعجمة : الإخفاء ، وهي ضد البيان ، والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجميا .

قال الفراء والراغب : الأعجم : الذي في لسانه عجمة ، وإن كان في العرب ، والأعجمي : هو الذي أصله من العجم ، وقال أبو علي الفارسي : العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا بالعربية ، والأعرابي : الذي يسكن البادية ، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب .

{ وَهَذَا } ، أي : القرآن ، { لِسَانٌ } ، أي : كلام ، { عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ، وسماه لسانا ؛ لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا ، أو أراد باللسان البلاغة ، فكأنه قال : وهذا قرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح ، فكيف تزعمون أن بشرا يعلمه من العجم ، وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي تشيرون إليه ، وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه ، وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة .

فثبت بهذا أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي أوحاه الله إليه ، وليس هو من تعليم البشر الذي تشيرون إليه ، ولا هو آت به من تلقاء نفسه ، بل هو وحي من الله عز وجل ، وهاتان الجملتان مستأنفتان ، سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم .