البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ} (103)

ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله ، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه ، فليس هو المختلق بل المختلق غيره ، وهو ناقل عنه .

وظاهر قولهم : إنما أنت مفتر .

إنّ معناه : مختلق الكذب ، وهو ينافي التعلم من البشر ، فيحتمل أن يكون قوله : مفتر ، في نسبة ذلك إلى الله ، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين : طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري ، وطائفة أنه يتعلم من البشر .

ويعلم مضارع اللفظ ومعناه : المضي أي : ولقد علمنا ، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين .

فقيل : هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل : عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله : الفراء ، والزجاج .

وقيل : أبو فكيهة أعجمي مولى لامرأة بمكة .

قيل : واسمه يسار وكان يهودياً قاله : مقاتل ، وابن جبير ، إلا أنه لم يقل كان يهودياً .

وقال ابن زيد : كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس .

وقال حصين بن عبد الله بن مسلم : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، يسار وحبر ، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم ، وكان صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيسمع قراءتهما .

قيل : وكانا حدادين يصنعان السيوف ، فقال المشركون : يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال : بل هو يعلمني ، فقال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له : بلعام ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم .

وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي ، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة ، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني .

واللسان : هنا اللغة .

وقرأ الحسن : اللسان الذي بتعريف اللسان بأل ، والذي صفته .

وقرأ حمزة والكسائي : يلحدون من لحد ثلاثياً ، وهي قراءة عبد الله بن طلحة ، والسلمي ، والأعمش ، ومجاهد ، وقرأ باقي السبعة ، وابن القعقاع : بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهما بمعنى واحد .

قال الزمخشري : يقال ألحد القبر ولحده ، فهو ملحد وملحود ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله : وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها ، لم يمله من دين إلى دين .

والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى .

وظاهر قول الزمخشري : إن اللسان في الموضعين اللغة .

وقال ابن عطية : وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة .

واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة .

واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية .

وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً ، وقد عجزتم وعجز جميع العرب ، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن ؟

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي ، ما محلها ؟ ( قلت ) : لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لقولهم ، ومثله قول الله : أعلم ، حيث يجعل رسالاته بعد قوله : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } انتهى .

ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي : يقولون ذلك والحالة هذه أي : علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة ، كما تقول : تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي : علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه .

وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال ، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ ، وهو مذهب مرجوح جداً ، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب ، وهو مذهب تبع فيه الفراء ، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها ، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال ، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا ، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون ، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون ، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال .