قوله - تعالى- : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } الآية ، هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص ، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه .
واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس - رضي الله عنه- : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم فتى بمكة اسمه " بلْعَام " ، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة ، وكان يتكلم بالروميَّة ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون : إنما يعلمه " بلعام " {[20062]} .
وقال عكرمة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرئ غلاماً لبني المغيرة ، يقال له : " يَعِيش " ، وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه " يَعِيش " {[20063]} .
وقال الفراء : كان اسمه : " عائش " ، مملوك لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجميًّا ، وقيل : اسمه " عدَّاس " ، غلام " عتبة بن ربيعة " .
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي ، يقال له : " جَبْر " ، وكان يقرأ الكتب ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر ، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة ، وجبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف ويسمع{[20064]} .
قال الضحاك : وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما ، فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية{[20065]} .
وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فكذبهم الله - تعالى - بقوله : { لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } .
قوله تعالى : { لِّسَانُ الذي } ، العامة على إضافة " لِسانُ " إلى ما بعده ، والمراد باللسان هنا : القرآن ، والعرب تقول للغة : لسان .
وقرأ الحسن{[20066]} - رضي الله عنه- : اللِّسان معرفاً ب " أل " ، و " الَّذِي " ، نعت له وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، قاله الزمخشري .
والثاني : أنَّها حال من فاعل " يَقُولونَ " ، أي : يقولون ذلك والحال هذه ؛ أي : علمهم بأعجميَّة هذا البشر ، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك المقالة ؛ كقولك : تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ ، أي : وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه ، قاله أبو حيان{[20067]} رحمه الله .
ثم قال : " وإنَّما ذهب الزمخشري{[20068]} إلى الاستئناف لا إلى الحال ؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء " .
و " أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين ، والإلحاد في اللغة : الميل ، يقال : لَحَدَ وألْحَدَ ؛ إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ : مُلْحِد .
وقرأ{[20069]} حمزة والكسائي : " يَلْحَدُونَ " ، بفتح الياء والحاء ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء .
قال الواحدي - رحمه الله- : والأولى ضم الياء ؛ لأنه لغة القرآن ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] ، وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف .
والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ؛ ومنه يقال : ألْحَدت له لَحْداً ؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء ، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود ، ومنه المُلْحِد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها ، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين .
قال الفراء : يَمِيلُون من المَيْلِ . وقال الزجاج : يَمِيلُونَ من الإمالةِ ، أي : لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي .
والأعجمي : قال أبو الفتح الموصلي : " تركيب " : " ع ج م " ، وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضدُّه البيان والإيضاح ؛ ومنه قولهم : رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء ؛ إذا كانا لا يفصحان ، والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية . وقال الراغب : العجم خلاف العرب ، والعجم منسوب إليهم ، والأعجم : من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي ؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة .
والأعجمي منسوب إليه ، ومنه قيل للبهيمة : عجماء ؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها ، وصلوات النَّهار عجماء ، أي : لا يجهر فيها ، والعجَمُ : النَّوى لاختفائه .
قال بعضهم : معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ ، وأعجمتهُ : أزلت عجمتهُ ؛ كأشْكَيتهُ : أزلتُ شِكايَتهُ .
قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم : هو الذي في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي : الذي أصله من العجم ، قال أبو علي الفارسي : الذي لا يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم ؛ ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم ؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا ؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في " الشعراء " ، و " حم السجدة " .
وقال بعضهم : العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً .
المعنى : إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي ، وهذا القرآن عربي فصيح ، فتقرير هذا الجواب كأنه قال : هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي ، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة ، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل ، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود ؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.