قوله تعالى : { وإنا لجميع حاذرون } قرأ أهل الحجاز والبصرة : حذرون وفرهين بغير ألف ، وقرأ الآخرون حاذرون وفارهين بالألف فيهما ، وهما لغتان . وقال أهل التفسير : حاذرون ، أي مؤدون ومقوون ، أي : ذوو أداة وقوة مستعدون شاكون في السلاح ، ومعنى حذرون أي : خائفون شرهم . وقال الزجاج : الحاذر : المستعد ، والحذرة : المستيقظ . وقال الفراء : الحاذر : الذي يحذرك الآن ، والحذر : المخوف . وكذلك لا تلقاه إلا حذراً ، والحذر : اجتناب الشيء خوفاً منه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «حذرون » وهو جمع حذر وهو المطبوع على الحذر وهو هاهنا غير عامل ، وكذلك هو في قول أبي أحمر : [ السريع ]
هل ينسئن يومي إلى غيره . . . أنى حوالى وإني حذر{[8931]}
واختلف في عمل فعل فقال سيبويه إنه عامل وأنشد : [ الكامل ]
حذر أموراً لا تضير وآمن . . . ما ليس منجيه من الأقدار{[8932]}
وادعى اللاحقي تدليس هذا البيت على سيبويه ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «حاذرون » وهو الذي أخذ يحذر{[8933]} ، وقال عباس بن مرداس : [ الوافر ]
وأني حاذر أنهي سلاحي . . . إلى أوصال ذيال صنيع{[8934]}
وقرأ ابن أبي عمارة{[8935]} وسميط بن عجلان «حادرون » بالدال غير منقوطة من قولهم عين حدرة أي معينة فالمعنى ممتلئون غضباً وأنفة{[8936]} .
قوله : { وإنا لجميع حاذرون } حثّ لأهل المدائن على أن يكونوا حَذِرين على أبلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله : { لجميع } وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة ، أي إنا كلَّنا حَذرُون ، ف { جميع } وقع مبتدأ وخبرُه { حاذرون } ، والجملة خبر { إنَّ } ، و ( جميع ) بمعنى : ( كل ) كقوله تعالى : { إليه مرجعكم جميعاً } في سورة يونس ( 4 ) .
و { حَاذِرون } قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حَذِر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين . وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بألف بعد الحاء جمع ( حَاذر ) بصيغة اسم الفاعل . والمعنى : أن الحَذَر من شيمته وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك ، أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحَذرُ مما عسى أن يكون لها من سيّىء العواقب .
وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سدّ ذرائع الفساد ولو كان احتمالُ إفضائها إلى الفساد ضعيفاً ، فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم ، ولذلك يقول علماء الشريعة : إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة ، فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه ، والترصدُ لِمنع وقوعه ، وتقدم في قوله { يَحْذَر المنافقون } في براءة ( 64 ) . والمحمود منه هو الخوف من الضارّ عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذرُ منه ضرب من الهوس .
وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعِّد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَإنّا لَجِمِيعٌ حاذِرونَ" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة "وَإنّا لَجِمِيعٌ حاذِرونَ "بمعنى: أنهم معدون مؤدون ذوو أداة وقوّة وسلاح. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة: «وَإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ» بغير ألف. وكان الفرّاء يقول: كأن الحاذر الذي يحذرك الآن، وكأن الحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا...
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء، فمصيب الصواب فيه... عن أبي إسحاق، قال: سمعت الأسود بن زيد يقرأ: "وَإنّا لَجِمِيعٌ حاذِرُونَ" قال: مقوون مؤدون...
عن ابن جُرَيج "وَإنّا لَجِمِيعٌ حاذِرُونَ" قال: مؤدون معدون في السلاح والكراع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإنا لجميع حاذرون} وحذرون. قال بعضهم: من الحذر، وقال بعضهم: {وإنا لجميع حذرون} أي مؤدون أي مقومون، أي معنا أدوات أصحاب الحرب، والمقوى الذي دابته قوية. وقال بعضهم: {حذرون} أي مستعدون للحرب، وقال بعضهم: حاذرون لما حدث لهم من الحزن، والحذر للحال، حذروا المعاودة، أي حذروا أن يعودوا إليهم، وحذرون أي كنا، ولم نزل منهم على حذر. وقال أبو معاذ: حاذرون مؤدون من الأداة أي تاموا السلاح.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده؛ وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه. وقرىء: «حذرون» و«حاذرون» و«حادرون»، بالدال غير المعجمة. فالحذر: اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه. والحادر: السمين القوي...
أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان مدار مادة "شرذم "على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: {وإنا لجميع} أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإيالة الملك على قلب واحد. ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب "قليلون" من الاستضعاف فقال: {حاذرون} أي ونحن -مع إجماع قلوبنا- من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال! فليقل العملاء: إن هذا لا يهم فنحن لهم بالمرصاد:
مستيقظون لمكائدهم، محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور!
إنها حيرة الباطل المتجبر دائما في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأنهم قليلون يتوجب الحذر منهم، فقال: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي نخشى شرهم، ونتوقعه، وذلك كما بدا من ضعفه أمامهم، فإن الحق يرهب أقوى الأقوياء ولو كان فرعون ذا الأوتاد، وقد أكد حذره وحذر من معه بعدة مؤكدات منها (إن) الدالة على التحقيق، والتأكيد بجميع والثالث اللام. ورابعها التعبير بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار، كان إيذانا، لنخوفهم، وضياع الأمر من أيديهم، وإن أمر مصر يتساقط من جموحهم، ولذا قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)}.