اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ} (56)

وأما وصفه قومه فهو قوله :

{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ } . قرأ الكوفيون{[37180]} وابن ذكوان : «حاذرون » بألف . والباقون : «حذرون » بدونها{[37181]} . فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد ، يقال : رجل حذر{[37182]} وحاذر بمعنى{[37183]} .

وقيل : بل بينهما فرق ، فالحذر : المتيقظ . والحاذر : الخائف{[37184]} . وقيل : الحذر : المخلوق مجبولاً على الحذر . والحاذر : ما عرض له ذلك{[37185]} .

وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح{[37186]} ، وأنشد سيبويه في إعمال «حَذِر » على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله :

3905 - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ *** مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ{[37187]}

وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله : هل يحفظ شيئاً في إعمال «فَعِل » ؟ صنع له هذا البيت ، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة ؟ .

وهذا غلط ، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب ، فلا يقدح قوله في سيبويه . والذي ادعى أنه صنع البيت هو الأخفش{[37188]} . و «حَذِر » يتعدى بنفسه ، قال تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرداس{[37189]} :

3906 - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي*** إلَى أَوْصَال ذَيَّالٍ مَنِيعِ{[37190]}

وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار{[37191]} : «حَادِرُونَ »{[37192]} بالدال المهملة{[37193]} من قولهم : عين حدرة ، أي : عظيمة{[37194]} ، كقولهم :

3907 - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ{[37195]} *** . . .

والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادر : القوي الممتلىء ، وحكي : رجل حادر ، أي : ممتلىء غيظاً ، ورجل حادر ، أي : أحمق ، كأنه ممتلىء من الحمق قال :

3908 - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه *** وَأَبْغَضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ{[37196]}

ويقال أيضاً رجل [ حَدُرٌ بزنة يقظ مبالغة في ( حادر ) من هذا المعنى{[37197]} ، فصار يقال ]{[37198]} حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف .

واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث . وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [ أفادت الثبوت . فمن قرأ «حَذِرُونَ »{[37199]} ]{[37200]} ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ : «حَاذِرُون » ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا . ومن قرأ : «حَادِرُون »{[37201]} بالدال المهملة{[37202]} ، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً ، لأن الحادر{[37203]} هو السمين ، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء ، أو أراد : إنا شاكون في السلاح . والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى ، أو خائف منهم{[37204]} .


[37180]:وهم عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي.
[37181]:السبعة (471)، الكشف 2/151، النشر 2/335، الإتحاف (332).
[37182]:حذر: مكرر في الأصل.
[37183]:قال أبو عبيدة: ( حذر وحذر، وقوم حذرون وحاذرون) مجاز القرآن 2/86، فكأنه يرى المعنى فيها واحداً. وقال الزجاج: ( فالحاذر المستعد، والحذر المتيقظ) معاني القرآن وإعرابه 4/92.
[37184]:انظر الكشاف 3/115.
[37185]:انظر معاني القرآن للفراء 2/280.
[37186]:انظر معاني القرآن للفراء 2/280، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/92 التبيان 2/996.
[37187]:البيت من بحر الكامل، قيل: قاله أبان بن عبد الحميد اللاحقي، وضعه حينما سأله سيبويه عن شاهد لتعدي (فعل). وقيل: قاله عبد الله بن المقفع، وقد تقدم.
[37188]:والذي ذكره البغدادي في الخزانة نقلاً عن المازني أن الذي فعل ذلك هو أبان اللاحقي. انظر الخزانة 8/171-172.
[37189]:هو العباس بن مرداس الصحابي-رضي الله عنه- ابن أبي عامر بن حارثة أسلم قبل فتح مكة بيسير، وأمه الخنساء الصحابية الشاعرة، وكان من المؤلفة قلوبهم. الخزانة 1/152-154.
[37190]:البيت من بحر الوافر، وهو في مجاز القرآن 2/86، تفسير ابن عطية 11/113، واللسان (ذيل)، البحر المحيط 7/18. وفي ب: (والى) بدل (وإنّي)، (أعني) بدل (أنمي)، (صنيع) بدل (منيع). أنمي: أزيد وأمدّ. الأوصال: جمع وصل، وهو المفصل. الذيّال: طويل الذيل المتبختر في مشيته. المنيع: القوي السريع. والشاهد فيه قوله (حاذر) فإنه اسم فاعل من (حذر) وهو متعد على مفعول محذوف لدلالة المقام كأنه قال: حاذر عدوي.
[37191]:لم أهتد إلى ترجمة له فيما رجعت إليه من مراجع.
[37192]:في ب: حاذون. وهو تصحيف.
[37193]:المختصر (106)، المحتسب 2/128، البحر المحيط 7/18.
[37194]:انظر البحر المحيط 7/18.
[37195]:صدر بيت من بحر المتقارب قاله امرؤ القيس، وعجزه: شقّت مآقيهما من آخر. وهو في ديوانه (166)، القرطبي 13/102، اللسان (حدر)، المفضليات 856.
[37196]:البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف 3/115، اللسان (حدر)، البحر المحيط 7/18. والشاهد فيه قوله: (حادر). فإنه بمعنى ممتلىء قوي.
[37197]:حكاه أبو حيان عن صاحب اللوامح. البحر المحيط 7/18.
[37198]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[37199]:وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو.
[37200]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[37201]:وهي قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
[37202]:وهي قراءة ابن السميفع وابن أبي عمار.
[37203]:في ب: الحاذر. وهو تصحيف.
[37204]:انظر الفخر الرازي 24/137.