نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ} (56)

ولما كان مدار مادة " شرذم " على التقطع . فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد ، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل ، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل ، فقال : { وإنا لجميع } أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإيالة الملك على قلب واحد .

ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم ، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم ، وفي مضادة لما أشير إليه ب " قليلون " من الاستضعاف فقال : { حاذرون* } أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر ، فنحن لا نزال على أهبة القتال ، ومقارعة الأبطال ، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره ، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم ، وإدرار الأرزاق فيكم ، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال ، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد ، وجميع ما يحتاج إليه المحارب ، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق ، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم ، ومكرهم لديكم ، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء : أحدها لوزرائه وكتابه وجنده ، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور ، والثالث له ولولده ، والرابع يفرق من مدن الكور ، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به ؛ وري أنه قصده قوم فقالوا : نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا ، فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال ، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم ، فإذا هو مائة ألف دينار ، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها ، فقال : اطرحوها عليهم ، فإن الملك إذا استغنى بمال رعيته افتقر وافتقروا ، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا .