المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

38- وشرع نوح في عمل الفلك ، وكلما مرَّ عليه قادة الكفر من قومه استهزأوا به ، لجهلهم ولعدم معرفة الغرض الذي يقصده ، قال نوح : إن تسخروا منا لجهلكم بصدق وعد الله ، فإنا أيضاً سنسخر منكم كما تسخرون منا .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

قوله تعالى : { ويصنع الفلك } . فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولها عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره ، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه ، ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد . وزعم أهل التوراة : أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا ، والذراع إلى المنكب ، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى ، ففعله نوح كما أمره الله عز وجل . وقال ابن عباس : اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفى البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد . قولا قتادة : كان بابها في عرضها . وروى عن الحسن : كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع . والمعروف الأول : أن طولها ثلثمائة ذراع . وعن زيد بن أسلم قال : مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ، ومائة سنة يعمل الفلك . وقيل : غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة . وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة ، وروى أنها كانت ثلاث طبقات ، الطبقة السفلى للدواب والوحوش ، والطبقة الوسطى فيها الإنس ، والطبقة العليا فيها الطير ، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، فلما وقع القار بجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفار .

قوله تعالى : { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } ، كانوا يقولون : إن هذا الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا ، وروي أنهم كانوا يقولون له : يا نوح ماذا تصنع ؟ فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون منه ، { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } ، إذا عاينتم عذاب الله ، { كما تسخرون } ، فإذا قيل : كيف تجوز السخرية من النبي ؟ قيل : هذا على ازدواج الكلام ، يعني إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب بكم ، وقيل : معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

التقدير : فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال ، إذ في خلالها وقع مرورهم ، قال ابن عباس : صنع نوح الفلك بيفاع دمشق{[6330]} وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشاذ وهو البقص{[6331]} . وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة ؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان ، وعرضها ستمائة ذراع ، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، ذكره قتادة ، وروي غير هذا مما لم يثبت ، فاختصرت ذكره ، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للبهائم ، وطبقة للطير ، إلى غير ذلك في حديث طويل{[6332]} .

و «الملأ » هنا الجماعة ، و { سخروا } معناه استجهلوه ، وهذا الإستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت - فوجه الإستجهال واضح . وبذلك تظاهرت التفاسير ؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له : صرت نجاراً بعد النبوة ؟ ! ! .

وقوله { فإنا نسخر منكم } قال الطبري : يريد في الآخرة .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام ، بل هو الأرجح ، أن يريد : إنا نسخر منكم الآن ، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه .


[6330]:- اليفاع: المرتفع من كل شيء، يكون في المشرف من الأرض، والجبل، والرمل، وغيرها. (المعجم الوسيط).
[6331]:- هكذا بالنسخ التي بأيدينا، والموجود في المعاجم البقس (بالسين لا بالصاد). قال في المعجم الوسيط: "البقس: شجر يشبه الآس خشبه صلب يعمل منه بعض الأدوات"، وقال في القاموس: "أو هو شجر الشّمْشاذ (بالذال المعجمة)، منابته بلاد الروم، تتخذ منه المغالق والأبواب لمتانته وصلابته".
[6332]:- الحديث طويل، وقد أورده الطبري في تفسيره.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ} (38)

عطف على جملة { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] ، أي أوحي إليه { اصنع الفلك } ، وصَنَع الفلك . وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحاً عليه السلام بصدد العمل ، كقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { يجادلنا في قوم لوطٍ } [ هود : 74 ] وجملة { وكلما مر عليه ملأ } في موضع الحال من ضمير { يصنع } .

و { كلّما } كلمة مركبة من ( كل ) و ( ما ) الظرفية المصدرية ، وانتصبت ( كل ) على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف ، وهو متعلّق { سخروا } ، وهو جوابه من جهة أخرى . والمعنى : وسَخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه .

و ( لما ) في ( كلما ) من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل ( إذا ) فاحتاجت إلى جواب وهو { سَخروا منه } .

وجملة { قال إن تسخروا منا } حكاية لما يجيب به سخريتهم ، أجريت على طريقة فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة ، لأن جملة { سخروا } تتضمن أقوالاً تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم .

وجمع الضمير في قوله : { مِنّا } يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذْ كانوا حَوله واثقين بأنه يعمل عَملاً عظيماً ، وكذلك جمعه في قوله : { فإنّا نسخر منكم } .

والسخرية : الاستهزاء ، وهو تعجب باحتقار واستحماق . وتقدم عند قوله تعالى : { فحَاق بالذين سَخروا منهم } في أول سورة [ الأنعام : 10 ] ، وفعلها يتعدى ب ( من ) .

وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه .

وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين ، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته . فالسخريتان مقترنتان في الزمن .

وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله : { كما تسخرون } فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية ، وإن كان بين السببيْن بَون .