قوله تعالى : { المال والبنون } ، التي يفتخر بها عتبة وأصحابه الأغنياء { زينة الحياة الدنيا } ، ليست من زاد الآخرة . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المال والبنون حرث الدنيا ، والأعمال الصالحات حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوام . { والباقيات الصالحات } اختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : هي قول سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الكلام أربع كلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي ، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أقول سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان عن أبي صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الملة قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " . وقال سعيد بن جبير ، ومسروق وإبراهيم : ( الباقيات الصالحات ) هي : الصلوات الخمس . ويروى هذا عن ابن عباس . وعنه رواية أخرى : أنها الأعمال الصالحة وهو قول قتادة . قوله تعالى : { خير عند ربك ثوابا } أي : جزاء ، المراد { وخير أملاً } ، أي ما يأمله الإنسان .
وقوله { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } لفظ الخبر ، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل ، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه ، فكأنه يقول في هذه : إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة ، فلا تتبعوها نفوسكم ، وقوله { زينة } مصدر ، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف ، وتقديره مقر زينة الحياة الدنيا ، وما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة ، واختلف الناس في { الباقيات الصالحات } فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل : هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، روي في هذا حديث : «أكثروا من الباقيات الصالحات »{[7816]} ، وقاله أيضاً ابن عباس ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات{[7817]} ، وقال ابن عباس أيضاً { الباقيات الصالحات } : كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري{[7818]} ، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم ، وقوله { خير ثواباً وخير أملاً } صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح .
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال ، كقوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملاً . والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب ، قال طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كـــــــرام سادة لمسوّد
و{ والباقيات الصالحات } صفتان جرتا على موصوف محذوف ، أي الأعمال الصالحات الباقيات ، أي التي لا زوال لها ، أي لا زوال لخيرها ، وهو ثوابها الخالد ، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية .
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم { الصالحات } على { والباقيات } لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات ، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات ، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها ، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ ( الصالحات ) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير ، وذلك كثير في القرآن قال تعالى : { وعملوا الصالحات } [ الكهف : 107 ] ، وفي كلامهم قال جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ *** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا ، فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباقٍ ، وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله : { فأصبح هشيماً تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن ، وكان قوله : والباقيات } مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً } [ مريم : 76 ] فإنه وقع إثر قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً } [ مريم : 73 74 ] الآية .
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس ، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً .
ومعنى { وخير أملاً } أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته . وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد ، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . فلا جرم كان قوله : { وخير أملاً } بالتحقق والعموم تذييلاً لما قبله .