قوله تعالى : { واضرب لهم } يا محمد أي : لقومك { مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } يعني : المطر ، { فاختلط به نبات الأرض } ، خرج منه كل لون وزهرة ، { فأصبح } عن قريب { هشيماً } يابساً . قال ابن عباس وقال الضحاك : كسيراً . والهشيم : ما يبس وتفتت من النبات فأصبح هشيماً ، { تذروه الرياح } ، قال ابن عباس : تثيره الرياح . وقال أبو عبيده : تفرقه . وقال القتيبي تنسفه { وكان الله على كل شيء مقتدراً } ، قادراً .
قوله { الحياة الدنيا } يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه ، وقوله { كماء } يريد هي كماء ، وقوله { فاختلط به } أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، فالباء في { به } باء السبب ، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك ، لا أنه{[7813]} أراد اختصاصاً بوقت الصباح ، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملك رأس البعير إن نفرا{[7814]}
و «الهشيم » المتفتت من يابس العشب ، ومنه قوله تعالى { كهشيم المحتظر }{[7815]} [ القمر : 31 ] ومنه هشم الثريد ، و { تذروه } ، بمعنى تفرقه ، وقرأ ابن عباس : «تذريه » ، والمعنى : تقلعه وترمي به ، وقرأ الحسن «تذروه الريح » بالإفراد ، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله : { وكان الله } عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان ، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله ، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح وقال الحسن { كان } : إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات ، أي إن القدرة كانت ، وهذا أيضاً حسن ، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل ، ثم يعود بعد ذلك { هشيماً } ويصير إلى عدم ، فمن كان له عمل صالح ، يبقى في الآخرة فهو الفائز ، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة ، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ، ونحوه .
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها ، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمل : 11 ] ، وقال : { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 14 15 ] .
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] . وما كان أحد الرجلين اللذين تقدمت قصتهما إلا واحداً من المشركين إذ قال : { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] .
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها .
والحياة الدنيا : تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها . فإطلاق اسم الحياة الدنيا } على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها ، فهي دُنيا .
وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد ، أي حياة كل أحد . ووصفُها ب ( الدنيا ) بمعنى القريبة ، أي الحاضرة غير المنتظرة ، كنى عن الحضور بالقرب ، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت .
والكاف في قوله : { كماء } في محل الحال من ( الحياة ) المضاف إليه ( مثل ) . أي اضرب لهم مثلاً لها حال أنها كماء أنزلناه .
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها ، فهما مرادان منه . وضمير { لهم } عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله : { وحشرناهم } { فلم نغادر منهم } { وعرضوا } { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا } [ الكهف : 47 48 ] .
واختلاط النبات : وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخِصب والازدهار .
والباء في قوله : ( به ) باء السببية . والضمير عائد إلى ( ماءٍ ) أي فاختلط النبات بسبب الماء ، أي اختلط بعض النبات ببعض . وليست البَاء لتعدية فعل اختلط } إلى المفعول لعدم وضوح المعنى عليه ، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق .
و ( أصبح ) مستعملة بمعنى صار ، وهو استعمال شائع .
والهشيم : اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول ، أي مَهْشوماً محطماً . والهَشْم : الكسر والتفتيت .
و { تذروه الرياح } أي تفرقه في الهواء . والذرو : الرمي في الهواء . شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زماناً بَهِجة خَضِرة ثم يصير نبتُها بعد حين إلى اضمحلال . ووجه الشبه : المصير من حال حسن إلى حال سَيّء . وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تَقلص بهجة الحياة ، وأيضاً شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجِدة وزخرف العيش لأهله ، ثم تَقلصُ ذلك وزوال نفعه ثم انقراضُه أشتاتاً بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأتِه عنه ونضارتهِ ووفرتهِ ثم أخذهِ في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطَايره أشتاتاً في الهواء ، تشبيهاً لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت .
وجملة { وكان الله على كل شيء مقتدراً } جملة معترضة في آخر الكلام . موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها ، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها ، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء ، وذلك اقتدار عجيب . وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله : { على كل شيء } وهو بذلك العموم أشبه التذييل . والمقتدر : القوي القدرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.