قوله تعالى : { وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ، فإن قيل : كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار ؟ وكيف قال : { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وهذا لا يليق بسؤال المغفرة ؟ قيل : أما الأول فمعناه : إن تعذبهم بإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم بعد الإيمان ، وهذا يستقيم على قول السدي : إن هذا السؤال قبل يوم القيامة ، لأن الإيمان لا ينفع في القيامة . وقيل : هذا في فريقين منهم ، معناه : إن تعذب من كفر منهم ، وإن تغفر لمن آمن منهم . وقيل : ليس هذا على وجه طلب المغفرة ، ولو كان كذلك لقال : أنت الغفور الرحيم ، ولكنه على تسليم الأمر ، وتفويضه إلى مراده .
وأما السؤال الثاني : فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ { وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم } ، وكذلك هو في مصحفه ، وأما على القراءة المعروفة قيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : إن تغفر لهم فإنهم عبادك ، وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم . وقيل معناه : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز ، في الملك ، الحكيم في القضاء ، لا ينقص من عزك شيء ، ولا يخرج من حكمك ، ويدخل في حكمته ومغفرته ، وسعة رحمته ومغفرته الكفار ، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، ثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم ابن الحجاج ، حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمر بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني } ، الآية . وقول عيسى عليه السلام : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فرفع يديه وقال : اللهم أمتي ، وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد ، -وربك أعلم- فسله ، ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال : فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوءك .
هذه الآية— على من قال :«إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه » مستقيمة المعنى ، لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون . وهي— على قول من قال :«إالتوقيف هو يوم القيامة »—بمعنى :إن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا اعتراض عليك ، { وإن تغفر لهم } بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك ، الحكيم في أفعالك . لا تعارض على حال . فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك . وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله .
وهذا هو عندي القول الأرجح{[4806]} . ويتقوى ما بعده .
وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به ، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه . وقد خلص للرحمة من خلص ، وللعذاب من خلص .
فقال تبارك وتعالى { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان{[4806]} أتقى فهو أدخل في العبارة ، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال . فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه ، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله { ذلك الفوز العظيم } .
وقرأ نافع وحده «هذا يومَ » بنصب يوم ، وقرأ الباقون «يومُ » بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو { هذا } و { يوم } مضاف إلى { ينفع } ، والمبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول . إذ القول يعمل في الجمل ، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين : أحدهما أن يكون «يوم » ظرفاً للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه ، وخبر { هذا } محذوف إيجازاً ، كأن التقدير قال الله : هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين .
قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا لمحمد عليه السلام وأمته ، وهذا أشبه من الذي قبله ، والبارع المتوجه قراءة الجماعة ، قال أبو علي ، ولا يجوز أن تكون «يوم » في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب ، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو من عذاب يومئذ{[2]} ، ولا يشبه قول الشاعر{[3]} :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع ؟{[4]}
لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي : «هذا يومٌ » بالرفع والتنوين .
قوله : { إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم } فوّض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأنّ المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدّة هول ذلك اليوم ، وغاية ما عرّض به عيسى أنه جوّز المغفرة لهم رحمة منه بهم .
وقوله : { فإنّك أنت العزيز الحكيم } ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة ، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض ، أي المحكِم للأمور العالم بما يليق بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.