البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (118)

{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } قال الزمخشري : { فإنهم عبادك } والذين عذبتهم جاحدين لآياتك ، مكذبين لأنبيائك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب .

( فإن قلت ) : المغفرة لا تكون للكفار ، فكيف قال : { وإن تغفر لهم } ؟ ( قلت ) : ما قال : إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن يقال : إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن .

وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلاً ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاطه منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسناً ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام ، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة .

وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : { فإنك أنت العزيز الحكيم } أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك .

وقيل لما قال لعيسى : { أأنت قلت للناس } الآية .

علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافراً بل ، مذنباً حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : { وإن تغفر لهم } .

وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : { وإن تغفر لهم } ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له { أأنت قلت للناس } كان وقت الرفع ، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه .

وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافراً وفي { وإن تغفر لهم } عائد على من تاب منهم قبل الموت .

وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم ، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك ؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك فقول عيسى { وإن تغفر لهم } فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة ، وظاهر قوله { فإنك أنت العزيز الحكيم } إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله { وإن تغفر لهم } قال عياض بن موسى : وليست من المصحف .

وقال أبو بكر بن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : { فإنك أنت العزيز الحكيم } لا يناسب قوله { وإن تغفر لهم } لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم .

والجواب : أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه ، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه ، وأنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم ؛ انتهى .

وأما قول من ذهب إلى أن في الكلام تقديماً وتأخير تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم .

روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بهذه الآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .