محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (118)

[ 118 ] { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 118 ) } .

{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 118 ) } .

قال الحافظ ابن كثير : هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل . فإنه الفعال لما يشاء . { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }{[3316]} . ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله . وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . انتهى .

أي : إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك . وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح . لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب . الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم . فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل . وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد . فلا امتناع فيه لذاته ، ليمتنع الترديد والتعليق ب ( إن ) . أفاده البيضاوي .

يعني أن المغفرة ، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود ، لكنها لما كانت بحسب العقل ، تحتمل الوقوع واللاوقوع ، استعمل فيها كلمة ( إن ) فسقط ما يتوهم أن تعذيبهم ، مع أنه قطعي الوجود ، كيف استعمل فيه ( إن ) وعدم وقوع العفو بحكم النص والإجماع . / وفي كتب الكلام : إن غفران الشرك جائز عقلا عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة . لأن العقاب حق الله على المذنب ، وليس في إسقاطه مضرة .

وبالجملة : فليس قوله تعالى : { إن تغفر لهم } تعريضا بسؤاله العفو عنهم . وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد ، وعلى مقتضى حكمه وحكمته . ولذا قال : { إنك أنت العزيز الحكيم } ، تنبيها على أنه لا امتناع لأحد عن عزته ، فلا اعتراض في حكمه وحكمته .

قال الرازي : قال قوم : لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم ، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم . فلما قال : فإنك أنت العزيز الحكيم ، دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى ، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه .

وفي ( العناية ) ما ملخصه : أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر { الغفور الرحيم } بدل { العزيز الحكيم } كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود- فقد غاب عنه سر المقام . لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط ، لكونه جوابه ، وليس كما توهم . بل هو متعلق بهما . ومن له الفعل والترك عزيز حكيم . فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام ، أو هو متعلق بالثاني ، وإنه احتراس ، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة ، أو لإهمال ينافي الحكمة . فبين أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة .

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب . وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة على الصباح يرددها .

روى الإمام أحمد{[3317]} عن أبي ذر رضي الله عنه قال : " صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة . فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فلما أصبح قلت : يا رسول الله  ! لم تزل تقرأ هذه الآي حتى أصبحت . تركع/ بها وتسجد بها ؟ قال : إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي ؛ فأعطانيها . وهي نائلة ، إن شاء الله ، لمن لا يشرك بالله شيئا " .

وأخرجه النسائي أيضا .

وروى الإمام أحمد{[3318]} أيضا عن أبي ذر قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء . فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون . فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله . فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع مكانه فصلى . فجثت فقمت خلفه فأومأ إلي بيمينه ، فقمت عن يمينه . ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه ، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله . فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ، أومأت إلى عبد الله بن مسعود : أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ؟ ففال ابن مسعود : لا أساله عن شيء حتى يحدث إلي ، فقلت : بأبي وأمي  ! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن . لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه . قال : دعوت لأمتي . قلت : فماذا أجبت ؟ أو ماذا رد عليك ؟ قال : أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة ، تركوا الصلاة . قلت : أفلا أبشر الناس ، قال : بلى . فانطلقت معنقا قريبا من قذفة بحجر . فقال عمر : يا رسول الله ! إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة . فناداه أن ارجع . فرجع " .

وتلك الآية : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .

وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ " أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني . . . } الآية{[3319]} . وقول عيسى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } / فرفع يديه وقال : اللهم  ! أمتي أمتي . وبكى . فقال الله تعالى : يا جبريل  ! اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله : ما يبكيك ؟ فاتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال ، وهو أعلم . فقال الله : يا جبريل  ! اذهب إلى محمد ، فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " .


[3316]:- [21/ الأنبياء/ 23]
[3317]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 149 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[3318]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 170 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[3319]:- [14/ إبراهيم/ 36] {... رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (31)}.