الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (118)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ف {إن تعذبهم} فتميتهم على ما قالوا من البهتان والكفر، {فإنهم عبادك}، وأنت خلقتهم، {وإن تغفر لهم}، فتتوب عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان، {فإنك أنت العزيز الحكيم} في ملكك، الحكيم في أمرك،...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

إن تعذّب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بإماتتك إياهم عليها، فإنهم عبادك، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم ولا يدفعون عن أنفسهم ضرّا ولا أمرا تنالهم به. وإن تغفر لهم بهدايتك إياهم إلى التوبة منها فتستر عليهم، فإنك أنت العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه لا يقدر أحد يدفعه عنه، الحكيم في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة وتوفيقه من وفق منهم لسبيل النجاة من العقاب.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده. والثاني: أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ظاهر هذه الآية يدل على أن عيسى لم يكن أعلمه الله أن الشرك لا يغفر على كل حال، فلذلك قال "إن تعذبهم فإنهم عبادك "الذين كفروا بك وجحدوا إلهيتك وكذبوا رسلك، "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". وقال البلخي: إن عيسى (ع) أخبر أنه لا علم له بما صنعوا بعده من الكفر به حتى قيل له: ماذا أجبت؟ قال لا علم لي، ثم قال: إن كانوا كفروا فعذبتهم فهم عبادك، وإن كانوا ثبتوا على ما دعوتهم إليه أو تابوا من كفرهم فغفرت لهم فأنت العزيز الحكيم. ومن ذهب إلى أن قول الله" ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس "إخبار عما مضى وأن الله قال ذلك عندما رفعه اليه، قال: إنما عنى عيسى إن تعذبهم بمقامهم على معصيتك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوبة تكون منهم، لأن القوم كانوا في الدنيا لأن عيسى لم يشك في الآخرة أنهم مشركون. وقد انقطعت التوبة، وإنما قال ذلك في الدنيا، وجعل قول الله تعالى" هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم "جوابا للرسل، حين سألهم ماذا أجبتم" قالوا لا علم لنا "فصدقهم الله في ذلك. ومثل ذلك قال عمرو بن عبيد والجبائي والزجاج، وكلهم شرط التوبة. وهذا الذي ذكروه ترك للظاهر وزيادة شرط في ظاهرها ليس عليه دليل...

وقوله" إن الله لا يغفر أن يشرك به "إنما هو إخبار لأمة نبينا بأن لا يغفر الشرك، ولا نعلم أن مثل ذلك أخبر به الأمم الماضية فلا متعلق بذلك. ويمكن أن يكون الوجه في الآية مع تسليم إن كان عارفا بأن الله لا يغفر أن يشرك به، وأنه أراد بذلك تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مدبره، والتبري من أن يكون له شيء من أمر قومه، كما يقول الواحد منا إذا تبرأ من تدبير أمر من الأمور، ويريد تفويضه إلى غيره: هذا الأمر لا مدخل لي فيه، فإن شئت أن تفعله وإن شئت أن تتركه، مع علمه أن أحدهما لا يكون منه. وقوله" فإنك أنت العزيز الحكيم "معناه إنك القادر الذي لا يغالب، وأنت حكيم في جميع أفعالك فيما تفعله بعبادك. و وقيل معناه" إنك أنت العزيز "القدير الذي لا يفوتك مذنب، ولا يمتنع من سطوتك مجرم." الحكيم "فلا تضع العقاب والعفو إلا موضعهما...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

..بيَّن أن حكم المولى في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال:"إن تعذبهم" يحسن منك تعذيبهم، وكان ذلك لأنهم عبادك، "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، أي المُعِز لهم بمغفرتك لهم. ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضركَ كُفْرُهم. ويقال {العَزِيزُ} القادر على الانتقام منهم، فالعفو عند القدرة سِمَةُ الكرمِ، وعند العجز أمارةُ الذُّل. ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزُّ من أن تتجمل بطاعة مطيعٍ أو تنتقص بِزِلَّةِ عاصٍ. وقوله {الحَكِيمُ} ردٌّ على من قال: غفران الشّركِ ليس بصحيح في الحكمة...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

374- فوض الأمر إلى المشيئة، وأخرج نفسه بالكلية من البين، لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات، فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان، فضلا عن التحقيق والاستيقان. [الإحياء: 4/180].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} القوي القادر على الثواب والعقاب {الحكيم} الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: (وإن تغفر لهم)؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية— على من قال: إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه مستقيمة المعنى، لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون. وهي— على قول من قال: التوقيف هو يوم القيامة —بمعنى:إن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا اعتراض عليك، {وإن تغفر لهم} بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك، الحكيم في أفعالك لا تعارض على حال. فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك. وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله. وهذا هو عندي القول الأرجح 1037. ويتقوى ما بعده. وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه. وقد خلص للرحمة من خلص، وللعذاب من خلص. فقال تبارك وتعالى {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان 1037 أتقى فهو أدخل في العبارة، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال. فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله {ذلك الفوز العظيم}...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{إن تعذبهم فإنهم عبادك} أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها...

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فُضَيْل، حدثني فُليَت العامري، عن جَسْرة العامرية، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال:"إني سألت ربي، عز وجل، الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا"...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان هذا الذي سلف كله سؤالاً وجواباً وإخباراً حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيراً إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل مطلقاً، وغفران الشرك ليس ممتنعاً بالذات، قال: {إن تعذبهم} أي القائلين بهذا القول {فإنهم عبادك} أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل {وإن تغفر لهم} أي تمح ذنوبهم عيناً وأثراً {فإنك أنت} أي خاصة أنت {العزيز} فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن {الحكيم} فلا تفعل شيئاً إلا في أعلى درج الإحكام، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ولما كان المراد من السؤال الذي أجيب عنه بهذا الجواب هو إقامة الحجة التي يظهر بها عدل الله تعالى يوم القيامة فيما يجزي به من اتخذ عيسى وأمه إلهين وغيرهم من قومه، فوض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى بحسب ما تقتضيه شهادته تعالى وصفاته فقال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أي إن تعذب أولئك الناس الذين أرسلتني إليهم فبلغتهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك وحدك، فضل من ضل منهم، وقالوا ما لم أقله لهم، واهتدى من اهتدى منهم فلم يعبدوا معك أحدا من دونك، فإنهم عبادك وأنت ربهم الأولى والأحق بأمرهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم، ولا بأعلم بحالهم، وإنما تجزيهم بحسب علمك بظواهرهم وبواطنهم، فأنت أعلم بالمؤمن الموحد، والمشرك المثلث، والطائع الصالح، والعاصي الفاسق، والمقر للكفر والفسق والمنكر لهما، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، ولا تظلم أحدا مثقال ذرة. فالمراد إذا: إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب منهم. ولا يمنع إرادة هذا المعنى إطلاق الضمير الراجع إلى جملتهم فإنه ضمير الجنس الذي يصدق ببعض الأفراد، وهو لم يرد بصيغة من صيغ العموم. ولذلك أطلقه في المقابل. وهو قوله: وإن تغفر لهم الخ أي وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة منهم، فإنك أنت العزيز أي القوي الغالب على أمره، الحكيم في جميع تصرفه وصنعه، فيضع كل حكم وجزاء وفعل في موضعه. وهو أعلم بموضع العدل، وموضع الرحمة والفضل.

وهذا التوجيه أظهر من قول بعضهم إن تعذب من أشرك منهم فإنهم عبادك، وإن تعذب من آمن منهم فإنك أنت العزيز الحكيم. فإن هذا تعيين لمن يعذبه ومن يغفر له، ينافيه إطلاق ضمير الجنس في مقام التفويض الذي مهد له بالبراءة مما قالوه فيه وفي أمه، مخالفا لما بلغهم عن ربه، وإثبات أن الله تعالى هو الرقيب عليهم، والشهيد مدة وجودي بينهم وبعد وفاتي، وأنت الشهيد عليهم ولا شهادة أكبر ولا أصدق من شهادتك، فمهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، إذ لا يوجد أحد أرحم منك بعبادك فيرحمهم أو يسألك أن ترحمهم، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ولا يمنع، ولا بتحويلك عن إرادتك فإنك أنت الحكيم الذي تضع كل شيء موضعه، فلا يمكن لأحد غيرك أن يرجعك عنه، بناء على أن غيره أولى منه. فمن ذا الذي يستطيع الاستدراك أو الافتيات عليك؟

فهذا بيان ما يقتضيه التفويض المطلق إلى الله تعالى وحده، بل أقول إن في جزاء الشرط الأول إشارة إلى أن تعذيب من يظن المخلوقون أنهم يستحقون المغفرة إن وقع من الله فلا يكون إلا عدلا، لأنهم عباد الله المضافون إليه، ومن شأن هذه الإضافة أن تفيدهم مغفرة منه ورحمة، يدل على ذلك قوله تعالى: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} [الزخرف: 68] {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53] وأمثالهما من الآيات التي أضيف فيها لفظ عباد إلى الله، فإذا وقع عليهم العذاب فلا بد أن يكون سببه الذي خفي عن المخلوقين عظيما، فالأدب التفويض – وفي جزاء الشرط الثاني إشارة إلى أن المغفرة إن أصابت من يظن المخلوقون أنه يستحق العذاب فلا تكون من الله تعالى إلا لغاية اقتضتها عزة الألوهية، وحكمة الربوبية، فلا عبرة بالظواهر التي تبدو للمخلوقين بالنسبة إلى علم علام الغيوب وحكمته ولا سيما في ذلك اليوم، فالواجب أن يفوض إليه الأمر كله، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء.

وبهذا تنجلي نكتة اختيار «العزيز الحكيم» هنا على «الغفور الرحيم» على خلاف المعروف من أسلوب القرآن في مراعاة مناسبة المقام في قرن الأسماء الإلهية بالأفعال والأحكام، كما تقدم بيانه في تفسير {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم} [المائدة: 38، 39] فذكر عيسى عليه السلام لاسمي الله {العزيز الحكيم} في جزاء شرطية المغفرة كذكره لكلمة «عبادك» في جزاء شرطية التعذيب، كل منهما وقع في محله الذي تقتضيه البلاغة في مقام التفويض فكان حجة له، ولو أراد بكلامه الشفاعة والاسترحام لعكس، ولكل مقام مقال، ولولا هذا لكان كل منهما اعتراضا على الرب، أو تعريضا بحكمه جل وعز، وحاشا لعيسى عليه الصلاة والسلام من ذلك...

وقد علم مما بيناه أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ويؤيد هذا عدة أحاديث (منها) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} [إبراهيم: 36] – الآية، وقول عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال «اللهم أمتي أمتي» وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال الله «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (ومنها) حديث ابن عباس في صحيح البخاري قال فيه: «ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم – إلى قوله الحكيم} [المائدة: 117، 118] قال فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم». وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره بهذا المعنى زيادة «فأقول بعدا لهم وسحقا» وقد ورد هذا المعنى في عدة أحاديث في الصحاح والسنن في ألفاظها بعض اختلاف لا يغير المعنى. منها أن هؤلاء الذين أحدثوا بعده صلى الله عليه وسلم يذادون أي يطردون عن الحوض. واختلف العلماء فيهم فقيل هم الذين ارتدوا بعده عن الإسلام وقاتلهم أبو بكر وقيل هم المنافقون وقيل هم المبتدعة. (ومنها) حديث أبي ذر عند أحمد والنسائي وابن مردويه أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبو ذر عن ذلك فقال «إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله شيئا».

فهذه الأحاديث تدل على أن مقام التفويض غير مقام الشفاعة وأن الشفاعة لا تنال أحدا يشرك بالله تعالى شيئا، وفاقا لما جاء به الوحي على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم كما تقدم في هذه السورة ولسان محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آيتين من سورة النساء، ووفاقا للآيات التي تنفي الشفاعة في الآخرة بإطلاق أو تنفي قبولها، أو تقيدها على تقرير حصولها بمثل قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28].

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ويخبرنا الحق من بعد ذلك بما جاء على لسان عيسى ابن مريم في قوله الكريم: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)}. ولقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكال واضح؟. لقد ادعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية. ونقول: إن عيسى لم يقل: (يا رب اغفر لهم) ولكنه قال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد لله باختيارهم. إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيمانا ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذين يقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادرا على أن يخلق خلقا لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة. لكن قدر القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختارا أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به، إن كل الوجود – ما عدا الإنسان – مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله. إذن لو أراد الله خلقا مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختارا بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف – سبحانه – بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط: الأول: أن يوجد العقل، والثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث: ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما. وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم: المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المصيبة، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعا فهو من عباد الله. ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيروا فيها. إذن فالعباد هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر...

. أي بين المراد لله. وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من عمله بكفرهم: {إن تعذبهم فإنهم عبادك}؟. ونقول: إن معنى (العباد) و (العبيد) الذي شرحناه سابقا هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون...