فيه سؤالٌ : وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ ؟ والجوابُ من وُجُوه :
الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً ، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة .
والثاني : أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة ، ويدخل الزُّهَّاد النَّار ؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه ، فكان غَرَضُ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى - ، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : القادرُ على ما تُريدُ ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ ، وما أحسن ما قِيلَ : فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ ، فإن غَفَرْتَ ، ففضلٌ ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ .
الثالث : معناهُ : " إن تُعذِّبْهُم " بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ ، و { إن تَغْفِرْ لَهُم } بعد الإيمان ، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [ رحمه الله ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ .
الرابع : قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم ، معناه : إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم ، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم .
قال القُرْطُبِي{[13007]} - [ رحمه الله تعالى ] - في الجوابِ عن هذا السُّؤال ، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة ، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه ، ولهذا لم يَقُلْ : فإنْ عَصَوْكَ .
وقيل : قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه ، والاسْتِجَارة من عَذَابه ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ .
وأمَّا قول من قال : إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له ، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى- ؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ .
وقيل : كان عند عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به ، إلاَّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ ، فقال : { وإن تَغْفِرْ لَهُمْ } ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي .
قوله : { فإنك أنت العزيزُ الحكيم } : تقدَّم نظيره [ البقرة 32 ] ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم " العزيزُ الحكيم " ، وفي مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه وقرأ بها جماعة : " الغفورُ الرحيم " ، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية ، وقال : " إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود " وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً ، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري ، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال : ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه ، فإنه ينفرد " الغفور الرحيم " بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما : أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه : إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران ، فكأنَّ " العزيز الحكيم " أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين ، ولم يصلُحْ " الغفور الرحيم " أنْ يحتمل من العموم ما احتمله " العزيز الحكيم " . قال شهاب الدين{[13008]} رحمه الله تعالى : وكلامُه فيه دقةٌ ، وذلك أنه لا يريد بقوله " إنه معروف بالشرطين إلى آخره " أنه جوابٌ لهما صناعةً ، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية ؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو " فإنهم عبادُك " وهو جوابٌ مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف شاء ، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى .
قوله : { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قيل : فيه تَقْدِيمٌ وتأخِيرٌ تقديرُهُ : وإنْ تغفِرْ لهم فإنَّهُم عبادُكَ ، وإن تُعذِّبْهُم ، فإنَّك أنْتَ العزيزُ في المُلْكِ ، الحكيمُ في القضاءِ ، لا يَنْقُصُ من عزِّك شَيءٌ ، ولا يَخْرجُ عَنْ حُكْمِكَ ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ ، وسِعَتْ رَحْمَتُهُ مَغْفِرةُ الكُفَّارِ ، ولكِنَّه أخْبَرَ أنَّه لا يَغْفِرُ لَهُمْ ، وهُوَ لا يُخلِفُ خَبَرهُ .
روى عَمْرُو بنُ العَاصِ : " أنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - تَلاَ قولَهُ تبارك وتعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] الآية ، وقول عيسى - عليه السَّلام : { إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبَادُك وإنْ تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ، فرفعَ يَديهِ وقال : " اللَّهُمَّ أمَّتِي ، اللَّهُمَّ أمَّتِي " فقال اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - : يا جِبْريلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وَرَبُّكَ أعْلَمُ ، فسله ما يُبْكِيه ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فسألَه ، فأخْبَرَهُ رَسُولُ الله ، فقال اللَّهُ : يا جبريلُ اذهبْ إلى رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبِرْهُ وقلْ لَهُ إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.