اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (118)

فيه سؤالٌ : وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ ؟ والجوابُ من وُجُوه :

الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً ، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة .

والثاني : أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة ، ويدخل الزُّهَّاد النَّار ؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه ، فكان غَرَضُ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى - ، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : القادرُ على ما تُريدُ ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ ، وما أحسن ما قِيلَ : فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ ، فإن غَفَرْتَ ، ففضلٌ ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ .

الثالث : معناهُ : " إن تُعذِّبْهُم " بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ ، و { إن تَغْفِرْ لَهُم } بعد الإيمان ، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [ رحمه الله ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ .

الرابع : قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم ، معناه : إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم ، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم .

قال القُرْطُبِي{[13007]} - [ رحمه الله تعالى ] - في الجوابِ عن هذا السُّؤال ، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة ، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه ، ولهذا لم يَقُلْ : فإنْ عَصَوْكَ .

وقيل : قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه ، والاسْتِجَارة من عَذَابه ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ .

وأمَّا قول من قال : إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له ، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى- ؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ .

وقيل : كان عند عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به ، إلاَّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ ، فقال : { وإن تَغْفِرْ لَهُمْ } ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي .

قوله : { فإنك أنت العزيزُ الحكيم } : تقدَّم نظيره [ البقرة 32 ] ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم " العزيزُ الحكيم " ، وفي مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه وقرأ بها جماعة : " الغفورُ الرحيم " ، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية ، وقال : " إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود " وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً ، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري ، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال : ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه ، فإنه ينفرد " الغفور الرحيم " بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما : أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه : إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران ، فكأنَّ " العزيز الحكيم " أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين ، ولم يصلُحْ " الغفور الرحيم " أنْ يحتمل من العموم ما احتمله " العزيز الحكيم " . قال شهاب الدين{[13008]} رحمه الله تعالى : وكلامُه فيه دقةٌ ، وذلك أنه لا يريد بقوله " إنه معروف بالشرطين إلى آخره " أنه جوابٌ لهما صناعةً ، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية ؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو " فإنهم عبادُك " وهو جوابٌ مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف شاء ، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى .

فصل

قوله : { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قيل : فيه تَقْدِيمٌ وتأخِيرٌ تقديرُهُ : وإنْ تغفِرْ لهم فإنَّهُم عبادُكَ ، وإن تُعذِّبْهُم ، فإنَّك أنْتَ العزيزُ في المُلْكِ ، الحكيمُ في القضاءِ ، لا يَنْقُصُ من عزِّك شَيءٌ ، ولا يَخْرجُ عَنْ حُكْمِكَ ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ ، وسِعَتْ رَحْمَتُهُ مَغْفِرةُ الكُفَّارِ ، ولكِنَّه أخْبَرَ أنَّه لا يَغْفِرُ لَهُمْ ، وهُوَ لا يُخلِفُ خَبَرهُ .

روى عَمْرُو بنُ العَاصِ : " أنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - تَلاَ قولَهُ تبارك وتعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] الآية ، وقول عيسى - عليه السَّلام : { إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبَادُك وإنْ تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ، فرفعَ يَديهِ وقال : " اللَّهُمَّ أمَّتِي ، اللَّهُمَّ أمَّتِي " فقال اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - : يا جِبْريلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وَرَبُّكَ أعْلَمُ ، فسله ما يُبْكِيه ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فسألَه ، فأخْبَرَهُ رَسُولُ الله ، فقال اللَّهُ : يا جبريلُ اذهبْ إلى رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبِرْهُ وقلْ لَهُ إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ " .


[13007]:ينظر: تفسير القرطبي 6/243.
[13008]:ينظر: الدر المصون 2/659.