قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } يعني : أفلا يتفكرون في القرآن ؟ والتدبر هو النظر في آخر الأمر ، ودبر كل شيء آخره .
قوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . أي تفاوتاً وتناقضاً كثيراً ، قاله ابن عباس ، وقيل : ( لوجدوا فيه ) أي : في الإخبار عن الغيب بما كان وبما يكون ( اختلافاً كثيراً ) ، أفلا يتفكرون فيه فيعرفوا بعدم التناقض فيه ، وصدق ما يخبر به ، أنه كلام الله تعالى لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف .
{ أفلا يتدبرون القرآن } يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه ، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء . { ولو كان من عند غير الله } أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار . { لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } من تناقض المعنى وتفاوت النظم ، وكان بعضه فصيحا وبعضه ركيكا ، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل ، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض ، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض ، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية ، ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح .
المعنى : هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في صدر نبوتك ، ألا يرجعون إلى النصفة ، وينظرون موضع الحجة ويتدبرون كلام الله تعالى ؟ فتظهر لهم براهينه ، وتلوح أدلته ، «والتدبر » : النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء ، هذا كله يقتضيه قوله : { أفلا يتدبرون القرآن } وهذا أمر بالنظر والاستدلال{[4165]} ، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة ، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور ، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه ، إذ ذلك موجود في كلام البشر ، والقرآن منزه عنه ، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علماً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيء من كتاب الله ، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه ، وذهب الزجّاج : إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به مما يبيتون اختلافاً ، أي : فإذا تخبرهم به على حد ما يقع ، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب ، هذا معنى قوله ، وقد بينه ابن فورك والمهدوي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظهم، فقال سبحانه: {أفلا يتدبرون}: أفلا يسمعون {القرآن} فيعلمون أنه، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}: كذبا كبيرا، لأن الاختلاف في قول الناس. وقول الله عز وجل لا اختلاف فيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق¹ فإن ذلك لو كان من عند غَير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض... قول الله لا يختلف، وهو حقّ ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف... إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا، ما جهل الناس من أمره فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم... فحقّ على المؤمن أن يقول: كلّ من عند الله، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض، وإذا جهل أمرا ولم يعرف أن يقول: الذي قال الله حقّ، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولاً وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقية ما جاء من الله.
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجُدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كثيراً}، فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه:
اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر.
واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغاً وبعضه مرذولاً ساقطاً؛ وهذان الضربان من الاختلاف منفيّانِ عن القرآن، وهو إحدى دلالات إعجازه؛ لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت.
والثالث: اختلاف التلاؤم، وهو أن يكون الجميع متلائماً في الحُسْنِ، كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ. فقد تضمّنت الآية الحَضَّ على الاستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ} أصل التدبر: الدبور، لأنه النظر في عواقب الأمور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل؛ فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه. {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} لكان الكثير منه مختلفاً متناقضاً قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغاً حدّ الإعجاز، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، وبعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم، وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه، بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص، فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته. فقال: {أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قوله: إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها، ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته.
المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها البتة، والعلماء قالوا: دلالة القرآن على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه:
وثانيها: اشتماله على الأخبار عن الغيوب.
والثالث: سلامته عن الاختلاف، وهذا هو المذكور في هذه الآية.
ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه:
الأول: قال أبو بكر الأصم: معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه، ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت، فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا بإعلام الله تعالى.
والثاني: وهو الذي ذهب إليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير، وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك، ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله
الوجه الثالث: في تفسير قولنا: القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة، حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك، بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة، فإذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة، فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه المعجز من عند الله تعالى، وضرب القاضي لهذا مثلا فقال: إن الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان، حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الإعجاز فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والإمام المعصوم، لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر، ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته، ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم، كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك.
المسألة الرابعة: دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم رئيس، لا يعلم إلا ما أظهروه، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعاني، المعجز المباني، الفائت لقوى المخاليق، المظهر لخفاياهم على اجتهادهم في إخفائها، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه: {أفلا يتدبرون} أي يتأملون، يقال: تدبرت الشيء -إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره {القرآن} أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل؛ قال المهدوي: وهذا دليل على وجوب تعلم معاني القرآن وفساد قول من قال: لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب، وفيه دليل على النظر والاستدلال.
ولما كان التقدير: فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم، عطف عليه قوله: {ولو كان من عند غير الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة- كما زعم الكفار {لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلوق عاجز عن التحرز من النقص العظيم بنفسه، وإفهامه -عند استثناء نقيض التالي- وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أفلا يتدبرون القرآن} التدبر هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها وعاقبة العامل به والمخالف له، والمعنى جهل هؤلاء حقيقة الرسالة، وكنه هذه الهداية، أفلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها، وعاقبة المؤمنين بها والجاحدين لها، فيعرفوا أنه الحق من ربهم، وأن ما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع بهم، لأنه كما صدق فيما أخبر به عما يبيتون في أنفسهم، وما يثنون عليه صدورهم، ويطوون عليه سرائرهم، يصدق كذلك فيما يخبر به من سوء مصيرهم، وكون العاقبة للمتقين الصادقين، والخزي والسوء على الكافرين والمنافقين، بل لو تدبروه حق التدبر لعلموا أنه يهدي إلى الحق، ويأمر بالخير والرشد، وأن عاقبة ذلك لا تكون إلا الفوز والفلاح، والصلاح والإصلاح، فإذا كانوا لاستحواذ الباطل والغي عليهم، لا يدركون كنه هداية هذا القرآن في ذاتها، أفلم يأن لهم أن يدركوا من خصائصه ومزاياه، أنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله؟.
{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} أي لو كان من عند محمد بن عبد الله القرشي لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تصوير الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، لا في حكايته عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقف على تاريخه، ولا في إخباره عن الآتي في مسائل كثيرة وقعت كما أنبأ بها، ولا في بيانه لخفايا الحاضر، حتى حديث الأنفس ومخبآت الضمائر، كبيان ما تبيت هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول صلى الله عليه وسلم أو ما يقوله لها فتقبله في حضرته.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد، وقواعد الشرائع، وفلسفة الآداب والأخلاق، وسياسة الشعوب والأقوام، مع اتفاق جميع الأصول، وعدم الاختلاف والتفاوت في شيء من الفروع.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات، في الأرض والسماوات، وفيها الكلام على الخلق والتكوين ووصف الكائنات بأنواعها، كالكواكب وبروجها ونظامها، والرياح والبحار والنبات والحيوان والجماد، وما فيها من الحكم والآيات. وكلامه في ذلك كله يؤيد بعضه بعضا لا شيء فيه، ولا اختلاف بين معانيه.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان سنن الاجتماع، ونواميس العمران، وطبائع الملل والأقوام، وإيراد الشواهد وضروب الأمثال، وتكرار القصة الواحدة، بالعبارات البليغة المتشابهة، تنويعا للعبرة، وتلوينا للموعظة، مع تجاوب ذلك كله على الحق، وتواطئه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض، وتعاليه عن التفاوت والتباين.
وفوق ذلك كله ما فيه من العلم الإلهي والخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال، والجزاء الوفاق، وكون ذلك موافقا لفطرة الإنسان، وجاريا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، فالاتفاق والالتئام بين الآيات الكثيرة في هذا الباب، هو غاية الغايات عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب
كان هذا القرآن ينزل منجما بحسب الوقائع والأحوال فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية أو الطائفة من الآيات أن توضع في محلها من سورة كذا وهو لا يقرأ في الصحف ما كتب أولا ولا ما كتب آخرا، وإنما يحفظه حفظا، ولم تجر العادة بأن الذي يأتي من عند نفسه بالكلام الكثير في المناسبات والوقائع المختلفة يتذكر عند كل قول جميع ما سبق له في السنين الخالية ويستحضره ليجعل الآخر موافقا للأول، وإذا تذكرت أن بعض الآيات كان ينزل في أيام الحرب وشدة الكرب، وبعضها كان ينزل عند الخصام، وتنازع الأفراد أو الأقوام، جزمت بأن من المحال عادة أن يتذكر الإنسان في هذه الأحوال جميع ما كان قاله من قبل ليأتي بكلام يتفق معه ولا يختلف، وكان إذا تلا عليهم الآيات يحفظونها عنه في صدورهم ويكتبونها في صحفهم، فلم يكن ثم مجال للتنقيح والتحرير لو فرض. وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران، ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول.
كتب ابن خلدون مقدمته في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والعمران فكانت أفضل الكتب وأحكامها في عصر مؤلفها وبعد عصره بعدة عصور، ثم ارتقت العلوم وتغيرت أصول العمران فظهر الاختلاف والخطأ في كثير مما فيها، بل نرى العالم النابغ في علم معين من علماء هذا العصر يؤلف الكتاب فيه ويستعين عليه بمعارف أقرانه من العلماء الباحثين ثم يطيل التأمل فيه وينقحه ويطبعه فلا تمر سنوات قليلة إلا ويظهر له الخطأ والاختلاف فيه فلا يعيد طبعه إلا بعد أن يغير منه ويصحح ما شاء، فما بالك بما يظهر للإنسان من الاختلاف والتفاوت في الكتب التي يؤلفها غيره من أول وهلة لا بعد مرور السنين، واتساع دائرة العلوم. وقد ظهر هذا القرآن في أمة أمية لا مدارس فيها ولا كتب، على لسان أمي لم يتعلم قراءة ولا كتابة، فكيف يمر عليه ثلاثة عشر قرنا يتغير فيها العمران البشري كما قلنا ولا يظهر فيه اختلاف ولا تفاوت حقيقي يعتد به، ويصلح أن يكون مطعنا فيه، أليس هذا برهانا ناصعا على كونه من عند الله أوحاه إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؟...
حاصل معنى الآية الكريمة أن تدبر القرآن وتأمل ما يهدي إليه بأسلوبه الذي امتاز به هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يهدي صاحبه إلى كونه من عند الله وإلى وجوب الاهتداء به لكونه من عند الله الرحيم بعباده، العليم بما يصلح به أمرهم، مع كون ما يهدي إليه معقولا في نفسه لموافقته للفطرة، وملاءمته للمصلحة.
وفيه أن تدبر القرآن على كل مكلف. لا خاص بنفر يسمون المجتهدين يشترط فيهم شروط ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما الشرط الذي لا بد منه، ولا غنى عنه، وهو معرفة لغة القرآن مفرداتها وأساليبها، فهي التي يجب على من دخل في الإسلام ومن نشأ فيه أن يتقنها بقدر استطاعته بمزاولة كلام بلغاء أهلها ومحاكاتهم في القول والكتابة حتى تصير ملكة وذوقا، لا بمجرد النظر في قوانين النحو والبيان التي وضعت لضبطها. وليس تعلم هذه اللغة ولا غيرها من اللغات بالأمر العسير، فقد كان الأعاجم في القرون الأولى يحذقونها في زمن قريب حتى يزاحموا الخلص من أهلها في بلاغتها. وإنما يراه أهل هذه الأعصار عسيرا لأنهم شغلوا عن اللغة نفسها بتلك القوانين وفلسفتها، فمثلهم كمثل من يتعلم علم النبات من غير أن يعرف النبات نفسه بالمشاهدة فلا يكون حظه منه إلا حفظ القواعد والمسائل فيعرف أن الفصيلة الفلانية تشتمل على كذا وكذا، وإذا رأى ذلك لا يعرفه.
وفيه أيضا وجوب الاستقلال في فهم القرآن لأن التدبر لا يتم إلا بذلك. ويلزم من ذلك بطلان التقليد... التقليد منع من الاستدلال والاستدلال واجب، التقليد منع من تدبر القرآن للاهتداء به وتدبره واجب، إن الله تعالى هو الذي أمرنا بتدبر كتابه، وبالاستدلال به، فلا يملك أحد من خلقه أن يحرم علينا ما أوجبه، الأئمة المجتهدون أجمعوا على وجوب الاهتداء بالقرآن وعلى المنع من التقليد الذي يصد عنه ويقتضي هجره، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين يطاعون، وإنما كانوا أدلاء للناس لعلهم يهتدون، ما قال بوجوب التقليد وتحريم الاستقلال إلا بعض المقلدين الذين يعترفون بأنه ليس لهم قول يتبع ولا أمر يطاع، وكان ذلك دسيسة من الملوك والأمراء المستبدين، ليذللوا الناس ويستعبدوهم باسم الدين، وكذلك كان. وقد علمت أن قبول الاستبداد واتباع القرآن، ضدان لا يجتمعان، وما نبغ عالم من العلماء الذين نشأوا على التقليد إلا وحاربه بعد نبوغه كالإمام الرازي الذي نقلنا قوله آنفا وله أقوال في ذلك أعم وأشمل نقلنا بعضها من قبل، وغيره كثيرون.
لسنا نعني ببطلان التقليد أن كل مسلم يمكن أن يكون كمالك والشافعي في استنباط الأحكام الاجتهادية في أبواب الفقه كلها فينبغي له ذلك وإنما نعني أنه يجب على كل مسلم أن يتدبر القرآن ويهتدي به بحسب طاقته وأنه لا يجوز لمسلم قط أن يهجره ويعرض عنه، ولا أن يؤثر على ما يفهمه من هدايته كلام أحد من الناس لا مجتهدين ولا مقلدين، فإنه لا حياة للمسلم في دينه إلا بالقرآن، ولا يوجد كتاب لإمام مجتهد، ولا لمصنف مقلد، يغني عن تدبر كتاب الله في إشعار القلوب عظمة الله تعالى وخشيته وحبه والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، ولا في تهذيب الأخلاق وتزكية الأنفس وتنزيهها عن الشرور والمفاسد، وتشويقها إلى الخيرات والمصالح، ورفعها عن سفساف الأمور إلى معاليها، ولا في الاعتبار بآيات الله في الآفاق، وسننه في سير الاجتماع البشري وطبائع المخلوقات، ولا في غير ذلك من ضروب الهداية التي امتاز بها على سائر الكتب الإلهية، فكيف تغني عنه فيها المصنفات البشرية.
أما وسر القرآن لو أن المسلمين استقاموا على تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان، لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة في معايشهم وأسبابها على سواهم.
هذا التدبر والتذكر الذي نطالب به المسلمين آنا بعد آن، كما هي سنة القرآن، لا يمنع أن يختص أولو الأمر منهم باستنباط الأحكام العامة في السياسة والقضاء والإدارة العامة، وأن يتبعهم سائر الأمة فيها، فإن الله سبحانه بعد أن أنكر على أولئك الفريق من الناس ترك تدبر القرآن، أنكر عليهم أيضا إذاعتهم بالأمور العامة المتعلقة بالأمن والخوف، وهداهم إلى ردها إلى أولي الأمر الذين هم أعلم بما ينبغي أن يعمل، وأقدر على استنباط ما يجب أن يتبع، فقال: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا83}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب...
وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان. يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم.. ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج. وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: (أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا)...
. تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج. وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: (أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا).. وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته -كما قلنا- كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها. وهي في الوقت ذاته ذات دلالة -كما أسلفنا- لا تمارى! والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها -بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى. ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع -عند التدبر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة -ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق- ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه.. وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة. تتجلى هذه الظاهرة. ظاهرة عدم الاختلاف.. أو ظاهرة التناسق.. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية.. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر. القوة والضعف. التحليق والهبوط. الرفرفة والثقلة. الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر. وأخصها سمة "التغير "والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال. يبدو ذلك في كلام البشر، واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد.. أو أي كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا.. وهو: التغير، والاختلاف...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحدّاهم بألفاظه، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه} [آل عمران: 7] الآية. والتدبّر مشتقّ من الدُّبر، أي الظَّهر، اشتقّوا من الدُّبر فعلاً، فقالوا: تدبّر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة. والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه، يقال: تدبّر الأمَر. فمعنى {يتدبَّرون القرآن} يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبّر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله، وأنّ الذي جاء به صادق. وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبُّر هنا على المعنى الأول، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم، ولمَا بَقُوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام. وكلا المعنيين صالح بحالهم، إلاّ أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطاً بما حكي عنهم من أحوالهم.
.. والاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض، أي اضطرابه، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم: أي لوجدوا فيه اختلافاً بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصفَ المطّلع على الغيوب، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم. ووُصِفَ الاختلاف بالكثير في الطَرف الممتنع وقُوعه بمدلول (لو). ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب (لو)، فلا يقدَّر ذلك الطرف مقيَّداً بقوله: {كثيراً} بل يقدر هكذا: لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلاً.
إذا سمعت كلمة "أفلا "فاعلم أن الأسلوب يقرع من لا يستعمل المادة التي بعده. {أفلا يتدبرون القرآن} أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا القرآن، فهناك شيء اسمه "التدبر"، وشيء اسمه" التفكر"، وثالث اسمه "التذكر"، ورابع اسمه" العلم"، وخامس اسمه "التعقل"، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، {أفلا يعلمون}، {أفلا يعقلون}، {أفلا يتذكرون}، {أفلا تتفكرون}. هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، تعقل، وعلم.
وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة" تدبر"؛ فمعنى هذا أنه واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالا قويا لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري قماشا، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعيا، فيبله لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس الناقدة فمعنى ذلك: أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في صالح ما ادعاه، ولو كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك: انظر جيدا وجرب.
والحق يقول: {أفلا يتدبرون القرآن} والتدبر هو كل أمر يعرض على العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقه فانظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها؛ و" تتدبر "تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك: الإله واحد، ابحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلها واحدا. وإياك أن تقول إنها مسألة رفاهية أو سفسطة؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد. سيكون جزاؤك النار.
إذن فتدبرت تعني: نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها، وهذه مرحلة بعد التفكر. فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. فالتفكر يأتي أولا وبعد ذلك يأتي التدبر. وأنت تقول مثلا لابنك: لكي يكون مستقبلك عاليا وتكون مهندسا أو طبيبا عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد.
إذن فأول مرحلة هي: التفكر، والثانية هي: التدبر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكرت فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية: فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضا في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا كنت قد تعقلت الأمر لذاتك يقال: عقلته. فإن فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان.
إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك، ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفى عنه التعقل من باب أولى؛ ذلك أن العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها، إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. لكنه لا يتعقل قدرات ذلك العالم. إذن فدائرة العلم أوسع؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. أما في دائرة العلم فإنك تعلم وتفهم ما عقله سواك.
ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون 170} (سورة البقرة).
وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون 104} (سورة المائدة).
في الآية الأولى قال سبحانه: {لا يعقلون} لأنهم قالوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال: {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}، وسبحانه هنا نفى عن آبائهم العلم الذي هو أوسع من نفي التعقل؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. لكنه لا ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره.
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.. والحق سبحانه وتعالى حينما يحث المستمعين للاستماع الى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه أنه يحب منهم أن يعملوا عقولهم فيما يسمعون؛ لأن الحق يعلم انهم لو اعملوا عقولهم فيما يسمعون لانتهوا الى قضية الحق بدون جدال ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون الطاعة} فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول}، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق: {أفلا يتدبرون} تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق.
وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمن الذي قال لرسول الله: إنهم بيتوا هذا؟!.
إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا إن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، ومادام رسول الله صادقا في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى {من يطع الرسول فقد أطاع الله}، وكل الآيات يخدم بعضها بعضا، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولا لقالوا: إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم. لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يعارض ويعارض. فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر.. ألا يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد؟ ولم يقل منهم احد كلمة، فما معنى ذلك؟ معناه: إنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون ويقولون ما يقولون. ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكا.
كان من الممكن أن يقولوا: إن محمدا يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا. ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن القرآن فيه مخالفات! فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون: إن القرآن فيه مخالفات؟ لقد كان العرب الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا: إن في القرآن اختلافا!! هذا دليل على أن المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة.
ونقول لهم: لقد تعرض القرآن لأشياء ليثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم أولا. فمنهم من سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد: هو أعجز العرب، فما شأن العجم والرومان؟ ونقول له: أكل الإعجاز كان في أسلوبه؟ لا، الإعجاز في أشياء تتفق فيها جميع الألسنة في الدنيا؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطئوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين 103} (سورة النحل).
يقصدون ب:"بشر "هذا غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، أو غلاما آخر روميا أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق: تعقلوا جيدا، فمحمد لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات. وبعد ذلك جاء القرآن تحديا لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب، بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل الناس.
والكون كما نعرفه له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل؛ لأنها لم تقع بعد. والحاضر أمامنا، فيجعل له حاجزا هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على سبيل المثال ويقول: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين 44} (سورة القصص).
وسبحانه يقول: {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا} (من الآية45 سورة القصص).
وسبحانه يقول: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون48} (سورة العنكبوت)...
المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن} فإن وجدت شيئا ظاهريا يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه من عند من إذا قص واقعا قصه على حقيقته، وعند من لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من الأدباء كي يكتب هذا، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما بعد ذلك!...
إذن فالتناقض يأتي مع صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولا ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. لكن ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إما من واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإما من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأيا ثم عدل عنه، فيكون متغيرا. لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير.. ويقول على الواقع الحق: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}..
والواقع أيضا أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على رسوله.. هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها يكون من مؤمن بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟. لا،
تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلا. تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن ليجدوا مطعنا، فنجد من لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجهون بظروف لا يجدون حلا لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن.
إن قوله سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن} تكريم للإنسان، فكان الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالا حقيقيا لانتهى إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكان الإنسان مزود بآلة فكرية.. هذه الآلة الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، والحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه الآلة: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفته الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. فمعنى الاختلاف أنك تجد آية تختلف مع آية أخرى، فكان الذي قال هذه نسي أنه قالها!! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها، ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولا كي لا يخالفه ثانيا..